أجمع الباحثون على أن جحا الذي تتحدث عنه المأثورات الشعبية المتناقلة هو شخصية ركبتها أهواء الناس تلبية لحاجاتهم في العصور المتتابعة.
فتجاوزت بذلك ملامح الأصل التاريخي المعروف لشخصيته .
وهكذا أصبحنا نجد شخصيات جحوية تشترك في الاسم و صفات التباله والحيلة والنقد المرير لكنها تختلف فيما تؤديه من خدمة للجماعة حين تنتقد الأوضاع العامة أو تنال من جنس النساء أو الحكام والقضاة والتجار .
و هذا يفسر لماذا كان لجحا المصري شخصية تختلف عن شخصية جحا في المغرب العربي أو غيره من جحوات الأرض.
والمأثورات العامية الحلبية المتداولة عن جحا قليلة العدد لا تبلغ واحداً من المئة مما ينسب إليه في مجموعات أخباره ،لكن استقرارها على ألسن عوام حلب يعني أنها تعبر عن صورة جحا التي شاء الوجدان الحلبي أن يتمثلها من بين عشرات الصور الجحوية .
تألفت عائلة جحا الحلبي من امرأة و ولد لم يكن يستطيع القيام بأودهما حيث لا نجد في المأثورات ذكراً لصنعة يزاولها وبالتالي فلنا أن نفترض أنه كان يعيش كاسباً رزقه كفاف يومه.
تألفت عائلة جحا الحلبي من امرأة و ولد لم يكن يستطيع القيام بأودهما حيث لا نجد في المأثورات ذكراً لصنعة يزاولها وبالتالي فلنا أن نفترض أنه كان يعيش كاسباً رزقه كفاف يومه.
و تُظهر المأثورات جحا إنساناً ذكياً يخلط " الجدبنة بالشيطنة " ومن ذلك ما تذكره عن المسمار أو المزراب الذي استثناه جحا عندما باع داره، فجعله حجةً لكي يدخل البيت مرة بعد مرة ، أو حكاية المجنون الذي صعد إلى المئذنة ورفض النزول منها فهدده جحا بقصها فنزل .
لكن جحا كان يوظف ذكاءه وسرعة بديهته بغرض الحفاظ على ذاته ولم يكن يأبه في سبيل ذلك بأن يدوس على ما تعارف الناس عليه من قيم اعتبروها أثمن من الحياة ذاتها ، فهو مستعد لأن يرتكب أخس تصرف يمكن لرجل أن يقوم به مردداً حكمة"الحي أفضل من الميت" إذا كان في ذلك تجنباً للموت .
لكن جحا كان يوظف ذكاءه وسرعة بديهته بغرض الحفاظ على ذاته ولم يكن يأبه في سبيل ذلك بأن يدوس على ما تعارف الناس عليه من قيم اعتبروها أثمن من الحياة ذاتها ، فهو مستعد لأن يرتكب أخس تصرف يمكن لرجل أن يقوم به مردداً حكمة"الحي أفضل من الميت" إذا كان في ذلك تجنباً للموت .
ودعا حب البقاء جحا إلى أن يعطي للطعام قيمة سامية تهون أمامها قيم الكرم والمسؤولية فهو لا يتورع عن التهام ما يضعه أمام ضيفه أو يجلبه لأهله من زاد حيث يروي المثل " جحا جابو ، جحا أكلو " وتبرر المأثورات ذلك التصرف بمثل آخر يقول " جحا أولى بلحم تورو" .
ولا يهتم جحا بهندامه فالمثل يقول " طول عمرو جحا لفتو عوجة " ويبرر ذلك عندما سئل " ليش لفتك عوجة " فيجيب" من قول الحق " فكأنه يسخر من سائله مذكراً إياه بأن الاعوجاج موجود في اشياء عديدة حولنا فما بالك لا ترى سوى اعوجاج لفتي ؟ .
تروي نادرة أخرى في نفس السياق أن جحا أراد أن يدخل بثيابه الرثة إلى مأدبة فلم يسمحوا له فعاد وقد ارتدى ثياباً فاخرة فأدخلوه فتصدر المجلس واخذ يغطس كمه في المرق كأنما يطعمه مخاطباً إياه " لولاك يا كمي ما أكلت يا تمي " .
وتبدو أنانية جحا بأوضح صورة في تعامله مع أقرب الناس إليه فإذا بلغ بموت أبيه : "أبوك مات وما خلف لك شي" ، أجاب باستهانة " وأنا بكيت عليه بكا خرج لحيتو" أي يليق بلحيته ، في دلالة على أنه بدوره لم يقدم لأبيه شيئاً سوى البكاء الزائف .
أما مظاهر الود الاجتماعي والمجاملة فهو يقابلها بالسخرية المريرة وعندما يقال له " حماتك بتحبك " يجيب "كنِّي (لعلها) عدمت عقلا " .
يبرر جحا صفاته تلك بأن ينسب للجماعة التي يعيش بين ظهرانيها أسوأ الصفات ولا يعترف لها بأية مكرمة كي يرى لنفسه الحق في أن ينال منها كل ما يستطيع دون أن يقدم لها شيئاً .
وليس غريباً بعد ذلك أن تروي المأثورات أنه " وقت ما صار جحا سلطان ، أول ما شنق، شنق أهل حارتو "،في تعبير واضح عما يمكن أن يصنعه النموذج الجحوي في الإنسان من تشويه يصل إلى أن يجعله عدواً لمجتمعه.
إن مقارنة سريعة لما تتداوله ألسنة عوام حلب عن جحا بما ورد في كتاب "لطائف نصر الدين خوجه" التركي تظهر تطابقاً شبه تام.
بل إن ماورد في "لطائف الخوجه" في حق مجتمعه أشد إسفافاً بكثير مما يذكرونه في حلب، و لقد تشكلت شخصية الخوجه تلك في نهاية القرن الخامس عشر بعد أن مر على المنطقة أربعة قرون من التفكك والفوضى بدأت بحروب الفرنجة وانتهت باجتياح غزاة المغول الذين دمروا معالم الحضارة ومؤسساتها في البلاد.
ولقد كان بروز شخصية الخوجه الجحوية آنذاك تعبيراً عن حاجة الناس إلى شخصية تسوغ لهم أن لا يمنحوا مجتمعهم الإخلاص والانتماء والعطاء، وأن ينصرف همهم إلى حماية ذواتهم أولاً وأخيراً في غياب المجتمع القادر على أن يوفر لهم الحماية والثقة والأمان،شخصية ترتدي ثوب الحماقة لكي تقول في أوضاعها ما تشاء فلا تحاسب .
ومن الغريب أن نجد النموذج الجحوي مازال إلى يومنا هذا مطلوباً حيث تذكر أخبار بلاد المغرب العربي أن التلفاز هناك قد أنتج عنه عملين في رمضان الحالي.
ولكن حذار، فإذا كنا اليوم نردد أخبار جحا من باب التفكه والتسلية فإن النمط الاجتماعي الذي يمثله خليق بأن يدان ويرفض .
فما أكثر السم في الدسم.