اللهم ارزقنا قلباً خاشعاً وعيناً دامعة
البكاء فطرة بشرية، وطبيعة فَطَر الله سبحانه تعالى عليها بني آدم..
يقول الله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى}، ولقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته تعالى فقال جلّ شأنه: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}؛ فمن أعظم البكاء, البكاء من خشية الله تعالى, وفي الحديث الشريف: "عينان لا تمسّهما النار, عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يبكي عند قراءة القرآن, وفي الصلاة, ويبكي على الميت, وعند المريض، وقد بكى صلى الله عليه وآله وسلم على ابنه إبراهيم وفي مواقف أخرى كثيرة.
ولنا في سنته صلى الله عليه وسلم البرهان الواضح والجلي في البكاء الذي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن يكون مجرداً من الجزع والصراخ والعويل وشق الجيوب وغير ذلك من الأعمال التي تدل على السخط على قدر الله وعدم الرضا بقضائه.
ونحن هنا بصدد رصد بعض المواقف التي أبكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لنأخذ منها العبرة والعظة:
اليوم أنا ضعيف وهو قوي
روي أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله، فدعاه فإذا هو شيخ يتوكّأ على عصا، فسأله؟ فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قوي، وفقيراً وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخل عليّ بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "ما من حجر ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى" ثم قال للولد "أنت ومالك لأبيك".
يا رب لم يبقَ من حسناتي شيء
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجلان من أمتي ركعا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تعالى: أعطِ أخاك مظلمته.. قال: يا رب لم يبقَ من حسناتي شيء؟ قال: يا رب فليحملْ من أوزاري. ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال رسول الله: "إن ذلك ليومٌ عظيمٌ يحتاج الناس أن يحمل عنهم أوزارهم".
وما يمنعني أن أبكي وقد أُنزل عليّ هذه الآية
روي أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها سُئلت عن أعجب ما رأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، ثم قالت: كان كل أمره عجباً، ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال لي: يا عائشة ألا تأذنين لي أن أتعبّد ربي عزّ وجلّ؟ فقلت: يا رسول الله، والله إني لأحب قربك وأحب ألّا تفارقني، فستأذنني فقام فتوضّأ، ثم قام يصلي ويتهجّد فبكى في صلاته حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الفجر، رآه يبكي فقال يا رسول الله: ما يُبكيك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال له: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فقرأها إلى آخر السورة، ثم قال: ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها !!
بكاء رسول الله من وصف جهنم
قال عمر بن الخطاب: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا جبريل ما لي أراك متغيّر اللون، فقال جئتُكَ في الساعة التي أمر الله بمنافخ النار أن تنفخ فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل صفْ لي النار، وانعت لي جهنم؟ فقال جبريل إن الله تبارك وتعالى لما خلق جهنم أوقد عليها ألف عام حتى ابْيَضّت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احْمَرّت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسْوَدّت فهي سوداء مُظلمة لا يضيء شررها ولا يُطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فُتح من جهنم لاحترق من في الأرض كلهم جميعًا من حرّها... والذي بعثك بالحق لو أن خازنًا من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لمات مَن في الأرض كلهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه، والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وُضعت على جبال الدنيا لذابت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى... حرّها شديد، وقعرها بعيد، وحليها حديد، وشرابها الحميم والصديد، وثيابها مقطعات النيران، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزءٌ مقسومٌ من الرجال والنساء. فقال صلى الله عليه وسلم: أهي كأبوابنا هذه؟
قال جبريل: لا، ولكنها مفتوحة بعضها أسفل من بعض، من باب إلى باب مسيرة سبعين سنة، كل باب منها أشد حرًا من الذي يليه سبعين ضعفًا، يُساق أعداء الله إليها فإذا انتهوا إلى بابها استقبلتهم الزبانية بالأغلال والسلاسل، فتسلك السلسلة في فمه وتخرج من دُبُرِه، وتُغَلّ يده اليسرى إلى عنقه، وتُدخَل يده اليمنى في فؤاده، وتُنزَع من بين كتفيه وتُشدّ بالسلاسل، ويُقرّن كل آدمي مع شيطان في سلسلة ويُسحَبُ على وجهه وتضربه الملائكة بمقامع من حديد.
فقال النبي "صلى الله عليه وسلم": مَنْ سكّان هذه الأبواب؟
فقال: أما الباب الأسفل ففيه المنافقون، ومَن كفر مِن أصحاب المائدة، وآل فرعون واسمه الهاوية، والباب الثاني فيه المشركون واسمه الجحيم، والباب الثالث فيه الصابئون واسمه سَقَر، والباب الرابع فيه إبليس ومن تَبِعَهُ، والمجوس واسمه لَظَى، والباب الخامس فيه اليهود واسمه الحُطَمَة، والباب السادس فيه النصارى واسمه العزيز، ثم أمسكَ جبريلُ حياءً من رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقال له: ألا تخبرني من سكان الباب السابع؟
فقال: فيه أهل الكبائر من أمتك الذين ماتوا ولم يتوبوا، فخَرّ النبي "صلى الله عليه وسلم" مغشيًّا عليه، فوضع جبريل رأسه على حِجْرِه حتى أفاق، فلما أفاق قال عليه الصلاة والسلام يا جبريل عَظُمَتْ مصيبتي، واشتدّ حزني، أَوَيدخل أحدٌ من أمتي النار؟
قال: نعم، أهل الكبائر من أمتك، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل عليه السلام فما زالا يبكيان حتى نوديا أن يا جبريل ويا محمد إن الله عز وجل قد أمنكما أن تعصياه، فارتفع جبريل عليه السلام وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بقوم من الأنصار يضحكون ويلعبون فقال أتضحكون ووراءكم جهنم، فلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، ولما أسفتم الطعام والشراب، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل، فنودي يا محمد لا تقنط عبادي إنما بعثتك ميسّرًا ولم أبعثك معسّرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله واحتجب عن الناس، فكان لا يخرج إلا إلى الصلاة يصلي ويدخل ولا يكلم أحداً، يأخذ في الصلاة يبكي ويتضرّع إلى الله تعالى..
أَقْرَأُ عليكَ.. وعليكَ أُنْزِلَ؟
عَن ابن مَسعودٍ رضي اللَّه عنه قال: قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: اقْرَأْ علي القُرآنَ قلتُ: يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟، قالَ: إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41] قال: حَسْبُكَ الآن، فَالْتَفَتُّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ.
إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب
عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: اشْتَكَى سعد بن عبادة شَكْوَى لَهُ، فَأَتَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلمّا دخل عليه وجدَهُ فِي غَشِيَّةٍ (غيبوبة الموت)، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم، فلمّا رأى القوم بكاء رسول الله صلّى اللَّه عليه وسلّم بَكَوْا، فَقَالَ: أَلا تَسْمَعُونَ؟ إنّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وأشار إلى لسانه- أوْ يَرْحَمُ.
إنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون
وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه، وهو يجود بنفسه (أي في سكرات الموت)؛ فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان؛ فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسولَ الله؟ فقال: يا ابنَ عوف إنها رحمةٌ، ثم أتبعها بأخرى فقال: إنّ العين لتدمع، وإن القلب ليحزن؛ ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنّا لفراقِك يا إبراهيم لمحزونون.