مدخل الى القضية الفلسطينية
لا
يمكن التعامل مع الصراع الدائر فوق
ارض فلسطين المحتلة كصراع نموذجي من
الصراعات البشرية العادية، كما لا
يمكن اعتبار هذا الصراع امتداداً
لصراعات لم تتوقف بين القوى المختلفة
للسيطرة على أرض فلسطين لأسباب
اقتصادية أو عسكرية أو حتى دينية .
فالصراع
الذي تحياه الأمة - بدرجات متفاوتة -
مع العدو الصهيوني يشكل صراعاً
تتداخل فيه الظروف التاريخية
والسياسية وعوامل الاقتصاد والدين
وحتى الرؤية الحضارية للمنطقة
العربية والإسلامية ودورها في موكب
الحضارة الإنسانية .
ويكفي
استعراض المراحل التاريخية التي مرت
بها القضية الفلسطينية لتوضيح هذه
الحقيقة فبينما كان التنافس
الإستعماري الاوروبي يشتد في نهاية
القرن الثامن عشر لوراثة
الإمبراطورية العثمانية، والسيطرة
على طريق الهند الإستراتيجي، ويشكل
عاملاً أساسياً لرسم سياسات الدول
الأوروبية، حاول الحركيون اليهود -
بدعم أوروبي شاركت فيه آنذاك ألمانيا
وبريطانيا - الضغط على الخلافة
العثمانية لانتزاع ميثاق من السلطان
عبد الحميد الثاني يمنح اليهود حق
الإستيطان في فلسطين والسماح بهجرتهم
إليها، غير أن السلطان العثماني رفض
الضغوط الأوروبية وإغراءات اليهود .
وفي
الفترة بين عامي 1900- 1901 أصدر السلطان
عبد الحميد بلاغاً يمنع المسافرين
اليهود من الإقامة في فلسطين لأكثر من
ثلاثة أشهر، كما أمر بمنع اليهود من
شراء أي أرض في فلسطين، خشية أن تتحول
هذه الأراضي إلى قاعدة لهم تمكنهم من
سلخ فلسطين عن بقية الجسد المسلم .
وفي
عام 1902 تقدم اليهود بعرض مغر للسلطان
عبد الحميد يتعهد بموجبه أثرياء
اليهود بوفاء جميع ديون الدولة
العثمانية وبناء أسطول لحمايتها،
وتقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية
لخزينة الدولة العثمانية المنهكة،
إلا أن السلطان رفض العروض وكان رده
كما جاء في مذكرات ثيودور هرتزل: (انصحوا
الدكتور هرتزل ألا يتخذ خطوات جدية في
هذا الموضوع، لأني لا استطيع أن أتخلى
عن شبر واحد من الارض، فهي ليست ملك
يميني بل ملك شعبي، لقد ناضل شعبي في
سبيل هذه الارض ورواها بدمائه،
فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت
امبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن
يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي
فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من
أن أرى فلسطين قد بترت من
الامبراطورية الاسلامية، وهذا أمر لا
يكون، فأنا لا استطيع الموافقة على
تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة .. )
.
وعندما
أيقن اليهود بفشل جميع المحاولات
الممكنة بدأوا بالعمل على إسقاط
الخلافة العثمانية، حيث استطاعوا
التسرب عن طريق طائفة يهود الدونمة
التي تظاهر أفرادها بالإسلام وحملوا
الأسماء التركية، ودخلوا في جميعة
"الاتحاد والترقي" ووصلوا الى
الحكم سنة 1907، وتصاعد النشاط
الصهيوني في فلسطين بدعم من أنصار
الاتحاد والترقي ويهود الدونمة الذين
سيطروا على مقاليد السلطة في
الاستانة حيث سمح الحاكم العثماني
الجديد لليهود بالهجرة إلى فلسطين
وشراء الأراضي فيها، مما فتح أمام
المنظمات الصهيونية للبدء بالنشاط
العملي على نطاق واسع حتى سقطت
الخلافة رسمياً سنة ( 1924) واحتلت
الجيوش البريطانية فلسطين .
لقد
التقت المصالح الاستعمارية
الاوروبية في انتزاع فلسطين من الوطن
العربي مع المصالح الصهيونية بإقامة
وطن قومي لليهود، بل إن قادة أوروبا
هم الذين عرضوا على اليهود إقامة وطن
لهم في فلسطين، قبل أن تطرح الحركة
الصهيونية الفكرة بسنوات طويلة، وعلى
الأخص من جانب فرنسا وبريطانيا في
محاولة للتخلص من المشكلة اليهودية
في أوروبا وتحقيق مكاسب استعمارية من
الدولة اليهودية .
كان
التنافس الاستعماري بين بريطانيا
وفرنسا واضحاً في الشرق الأوسط، حتى
قبل قيام الحركة الصهيونية، وكان هدف
كل منهما حماية مصالحه في المنطقة،
وملاحقة الدولة الأخرى من إجل
إيذائها أو منافستها على تلك
المصالح، وإيجاد الوسائل المختلفة
التي تحمي مصالحها واعتقدت بريطانيا
بعد فشل نابليون بونابرت في مصر وبلاد
الشام، أنه من المفيد إيجاد بدائل
اخرى في الشرق الأوسط، لاستمرار
تفوقها على فرنسا. وقد وجدت في فلسطين
مكاناً ملائماً لبسط نفوذها بسبب
الموقع الجغرافي الذي تتمتع فيه وسط
الوطن العربي وباعتبارها البوابة
التي تربط بين أسيا وأفريقيا، ولهذا
فإن من مصلحة الاستعمار الاوروبي
والبريطاني بالذات، فصل الجزء
الاسيوي عن الجزء الأفريقي من الوطن
العربي، وخلق ظروف لا تسمح بتحقيق
الوحدة بين الجزءين في المستقبل .
بدأ
الموقف البريطاني يتضح بعد حملة محمد
علي باشا والي مصر الى الشام، عندما
أرسل ابنه ابراهيم باشا الى المنطقة،
مما أثار بريطانيا لأنها خشيت أن
تتوحد مصر مع بلاد الشام في دولة
واحدة، لهذا ساهمت بريطانيا مع
الدولة العثمانية في إفشال حملة
ابراهيم باشا على بلاد الشام .
وبعد
تدخل بريطانيا، أرسل بالمرستون رئيس
وزراء بريطانيا مذكرة إلى سفيره في
استانبول في عام 1840، شرح فيها الفوائد
التي سوف يحصل علىها السلطان
العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى
فلسطين وقال :« إن عودة الشعب اليهودي
إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت
حمايته يشكل سداً في وجه مخططات
شريرية يعدها محمد علي أو من يخلفه » .
وفي
مارس / آذار 1840 وجه البارون اليهودي
روتشيليد خطاباً إلى بالمر ستون قال
فيه : «إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه
في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب
بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم
القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم
واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة
هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن
فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر
وبين العرب في أسيا. وكانت فلسطين
دائماً بوابة على الشرق. والحل الوحيد
هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في
هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة
حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه،
وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين
تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك
خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض
الميعاد مصداقاً للعهد القديم،
ولكنها أيضاً خدمة للامبراطورية
البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم
الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد
علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو
بقيام الاتصال بين مصر والعرب
الآخرين».
هاتان
الوثيقتان الصادرتان عن بريطانيا
وأحد زعماء اليهود، تظهران التقاء
مصالح الطرفين في محاربة قيام دولة
عربية موحدة، وأن ذلك لا يتم إلا من
خلال إقامة دولة دخيلة لليهود في قلب
المنطقة العربية ، وقد دعا تقرير
بريطاني اعدته لجنة شكلها رئيس وزراء
بريطانيا (هنري كمبل- بانزمان) عام 1907
إلى العمل من أجل إبقاء المنطقة
العربية مجزأة ومتأخرة وإلى «محاربة
اتحاد الجماهير العربية أو ارتباطها
بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو
الروحي أو التاريخي، وذلك من خلال
العمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه
المنطقة عن جزئها الآسيوي، عن طريق
إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر
البري الذي يربط آسيا وإفريقيا، بحيث
يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من
قناة السويس قوة صديقة لنا وعدوة
لسكان المنطقة » .
وهو
ما أمكن تحقيقه جزئياً من خلال
اتفاقية سايكس - بيكو (1916) وبموجب
الاتفاقية حصلت فرنسا على أجزاء من
سوريا وجنوب الأناضول وعلى منطقة
الموصل في العراق ولونت باللون
الازرق، وحصلت بريطانيا على أراضي
جنوب سوريا إلى العراق شاملة بغداد
والبصرة والمناطق الواقعة بين الخليج
العربي والأراضي الممنوحة لفرنسا
وميناءي عكا وحيفا ولونت باللون
الأحمر ، أما بقية مناطق فلسطين فقد
لونت باللون البني، واتفق على أن تكون
دولية، وهكذاحقق الاستعمار
البريطاني والفرنسي مؤامرته ضد قيام
وحدة بين جزئي الوطن العربي .
في
أعقاب الاتفاقية عمد قادة الحركة
الصهيونية وعلى رأسهم اللورد روتشيلد
وحاييم وايزمان لاجراء اتصالات مع
بريطانيا أدت إلى إصدار وعد بلفور،
وكان من الأسباب التي دفعت بريطانيا
للموافقة على الوعد هو أن تكون الدولة
اليهودية خط الدفاع الأول عن قناة
السويس واستمرار تجزئة الوطن العربي،
وقد أصدر القرار في 2 تشرين ثاني /
نوفمبر 1917 وزير الخارجية البريطاني
آنذاك آرثر بلفور، ونص القرار الذي
جاء على هيئة رسالة من بلفور إلى
روتشيلد على أن «حكومة صاحب الجلالة
تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي
للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل
غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية،
على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من
شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية
والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير
اليهودية المقيمة الآن في فلسطين،
ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي
يتمتع به اليهود في البلدان الاخرى،
وسأكون
ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد
الصهيوني علماً بهذا التصريح »
وفي
11 كانون أول / ديسمبر 1917 دخلت الجيوش
البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي
القدس وبدأت في تنفيذ وعد بلفور
عملياً وحدثت على أثر ذلك صدامات بين
العرب واليهود وتشكلت جمعيات عربية
ضد المشروع الصهيوني ،عندما أراد
اليهود الاحتفال بمرور عام على وعد
بلفور هدد العرب بالتظاهر غير أن
المندوب السامي البريطاني هربرت
صموئيل هدد بإلقاء القبض على كل عربي
يتظاهر .
وعلى
إثر إعلان هذا الوعد عمت الاحتجاجات
جميع أنحاء فلسطين وبعض الاقطار
العربية، وتأكد الفلسطينيون أن
بريطانيا ماضية في فصل بلادهم عن
الاقطار العربية، لا سيما بعد أن فرضت
عصبة الأمم المتحدة الانتداب
البريطاني على فلسطين عام 1919 .
وحاولت
بريطانيا تهدئة العرب، في الوقت الذي
كانت تسعى فيه إلى فصل فلسطين عن بلاد
الشام، ولكنها لم تنجح، حيث قام
الفلسطينيون بأول ثورة شعبية عام 1920 .
وخلال
انعقاد مؤتمر فرساي في كانون ثاني /
يناير 1919 قدمت الحركة الصهيونية إلى
المؤتمر خطة مدروسة واضحة المعالم
لتنفيذ مشروعها، دعت إلى :
1-
إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد
بلفور .
2-
أن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا
ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران
وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء
سيناء المصرية .
وفي
هذا المؤتمر، وضعت سياسة الانتداب
على المستعمرات التي كانت تابعة
لألمانيا وتركيا قبل الحرب. كما دعا
المؤتمر إلى تشكيل عصبة الأمم
المتحدة لتكون تلك الدول بريطانيا
وفرنسا مندوبة عن عصبة الامم .
وفي
31 أيار/مايو 1920م صدر إعلان الانتداب
على فلسطين في مؤتمر سان ريمو وعين
البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل
مندوباً سامياً في القدس، وكان
وزيراً للداخلية البريطانية
ومتعاطفاً مع الصهاينة .
وبعد
ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب
بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا
عن مضمون وعد بلفور، واحتج
الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة
بين الحرس البريطاني والعرب . كما
منعت بريطانيا المؤتمر الفلسطيني
الثاني من الانعقاد في حيفا عام 1920 ،
بعد أن أصبح تشرشل وزيراً للمستعمرات
عقد مؤتمراً في القاهرة للعسكريين
والموظفين البريطانيين لمراجعة
الوضع البريطاني في المنطقة، حيث
أوصى المؤتمر :
-
الاستمرار في تنفيذ وعد بلفور، لأن
بريطانيا ملزمة بإنشاء وطن قومي
لليهود .
-
ان تشكل في شرق الاردن مقاطعة عربية
بقيادة الأمير عبدالله يكون مسؤولاً
عنها أمام المندوب البريطاني دون أن
تكون المقاطعة مشمولة في النظام
الإداري لفلسطين، ودون أن تنطبق
عليها شروط الانتداب. وليكون شرق
الاردن مستعداً لاستقبال من يضطر من
الفلسطينيين للمغادرة .
بدأت
تتضح معالم المخطط البريطاني -
الصهيوني في فلسطين منذ مطلع القرن
العشرين، حيث أعلن الفلسطينيون رفضهم
له، وأثاروا مخاطر هجرة اليهود الى
فلسطين على الوجود العربي في فلسطين،
وحذورا من السكوت على استمرار هذه
الهجرة إلى بلادهم.
ويلاحظ
أن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا
يصرون على اعتبار فلسطين جزءاً من
سورية الكبرى، ويرفضون تجزئة النضال،
أو طرح مطالب إقليمية خاصة بهم، على
الرغم من خصوصية قضيتهم لاختلاف
الخطر عليهم عن بقية أبناء سورية
الكبرى حيث إنهم كانوا مهددين
بالهجرة اليهودية إلى بلادهم بتشجيع
من الانتداب البريطاني، بينما كانت
بقية الأقطار العربية تعاني من
الاستعمار البريطاني او الفرنسي من
دون أن تشكل الهجرة اليهودية أي تهديد
ضدها.
ولذلك
نجد أن الأمور تطورت في العشرينات،
وبدأت تخرج أصوات من داخل فلسطين
تطالب بالاستقلال الوطني الفلسطيني ،
بعد إثارة كل قطر من الأقطار العربية
لمشاكله الخاصة ودعوته للاستقلال
القطري، وهو ما كانت تطمح إليه فرنسا
وبريطانيا في المنطقة، على أساس أن
يقوم كل قطر عربي بمواجهة مشاكله
الخاصة به. وبدأ مفهوم "الدولة
العربية الموحدة" التي وعدت
بريطانيا بها الشريف حسين بن علي
بالأفول في ظل الوجود الاستعماري
الاوروبي، وانكفأ كل شعب في سورية
الكبرى على نفسه، يعمل وحده ضد الوجود
الاستعماري في بلاده. وانعكس هذا
الأمر على القضية الفلسطينية التي
سارت هي أيضاً ضمن هذا التوجه. وبدأ
بعض الفلسطينيين يطالبون باستقلال
فلسطين دون اعتبار انهم جزء من جنوب
سورية . وفي الوقت الذي كان فيه الشعب
الفلسطيني يناضل ضد وعد بلفور وتزايد
الهجرة اليهودية الى فلسطين بالتواطؤ
مع الانتداب البريطاني، كانت الشعوب
العربية مشغولة هي الاخرى بالعمل ضد
الوجود الاستعماري في أراضيها، ولهذا
فقد زادت الحركة الصهيونية من قوتها
في الثلاثينات والأربعينات بمساعدة
بريطانيا في غيبة الأمة العربية
والإسلامية التي كانت تخوض معركة،
وعندما استقلت الأقطار العربية أوائل
الاربعينات، كان الوقت متأخراً جداً
لكي تساهم تلك الجماهير مع الشعب
الفلسطيني في معركته ضد الحركة
الصهيونية وبريطانيا، إذ أعلن عن
قيام الكيان الصهيوني، وكانت النتيجة
ضياع فلسطين في حرب عام 1948، ودخلت منذ
ذلك الوقت القضية الفلسطينية في
أروقة السياسية العربية .
غير
أن الصهاينة ظلوا يعتقدون أن كيانهم
الذي أعلن فوق الأراضي المحتلة عام 1948
لم يشكل كل الأراضي التي يعتبرونها
أرض اسرائيل، فكان أن استغل الصهاينة
السنوات التالية لاعلان كيانهم من
أجل تعزيز قوتهم العسكرية وطرد
الكثير من المواطنين العرب من
أراضيهم، وفي العام 1956 شاركت الدولة
اليهودية مع فرنسا وبريطانيا في
عدوان ضد مصر، وأبلغ ديفيد بن غوريون
الكنيست أن من أهداف مشاركة الدولة
اليهودية في العدوان «تحرير ذلك
الجزء من الوطن القومي (شبه جزيرة
سيناء) الذي كان يحتله الغزاة » .
غير
أن البعد الاستراتيجي لاحتلال سيناء
كان إبعاد القوات المصرية عن حدود
الدولة اليهودية والحيلولة دون
عبورها قناة السويس مما يتيح لها
مهاجمة الكيان الصهيوني والوصول إلى
النقب، وكان الصهاينة يرون في صحراء
النقب هدفاً حيوياً يتوجب الدفاع عنه
مهما كلف الأمر لأنها تشطر الوطن
العربي إلى شطرين وتمنع الاتصال
البري بينهما، وقد طالب الصهاينة
الأمم المتحدة عام 1947 بالنقب، ولما
اقترح الوسيط الدولي الكونت برنادوت
عام 1948 ارجاع النقب للمواطنين العرب
أقدم الصهاينة على اغتياله في اليوم
التالي لاعلان اقتراحه .
ولم
تفلح الجهود الاستعمارية في تحقيق
الأهداف الصهيونية من خلال عدوان 1956،
غير أن الجهود العربية ظلت قاصرة
ومترددة مما منح الصهاينة فترة ذهبية
لتعزيز قدراتهم العسكرية والتخطيط
للهجوم حتى كان العام 1967 عندما اجتاحت
القوات الصهيونية الضفة الغربية
وقطاع غزة وهما ما تبقى من فلسطين بعد
حرب العام 1948 تحت السيادة العربية،
كما تمكن الصهاينة من احتلال شبه
جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات
الجولان السورية ، وقد انسحبت قوات
الاحتلال اليهودي من سيناء بموجب
اتفاقيات سلام مع مصر وضمن شروط تجعل
من البوابة الشرقية لمصر مشروعة
عملياً أمام أي محاولة اجتياح
يهودية، فيما لا زالت الدولة
الصهيونية تحتل الضفة الغربية وقطاع
غزة ومرتفعات لبنان إلى جانب شريط
حدودي من جنوب لبنان .
المقاومة
العربية
لم
تتوقف جهود العرب في الدفاع عن حقوقهم
في فلسطين منذ مطلع القرن ففي العام
1918تشكلت جمعية الفدائية وهي جمعية
سرية ضمت عدداً من رجال الشرطة
الفلسطينية ، وقد لعبت الجمعية دوراً
مهماً في الإعداد للثورة العربية في
فلسطين وفي نشر الوعي بالخطر
الصهيوني بين عشائر البدو في شرق
الأردن ضد اليهود غير أن اعتقال
زعمائها أضعفها وقضى عليها غير أنه لم
يوقف جهاد الفلسطينيين والعرب ضد
المخططات الصهيونية فكانت ثورة النبي
موسى (4 -10 نيسان /أبريل 1920) وثورة يافا
(1-5 أيار / مايو 1921)، ثورة البراق ( 15آب /
أغسطس 1929) وهي مواجهات محدودة كانت
دوافعها عاطفية، ولم تكن منظمة مما
حدّ من إمكانات تطورها أو تحقيق
أهدافها وان كانت لعبت دوراً في تأجيج
الصراع وتعطيل المشروع الصهيوني
جزئياً وبشكل مؤقت .
في
المقابل نظم مجاهدون قوى مقاومة كان
أهمها حركة الشيخ المجاهد عز الدين
القسام (1935) وكان الشيخ القسام قدم إلى
حيفا من سوريا بعد إنهيار الثورة
السورية ضد فرنسا، وبدأ نشاطه كمعلم
،ثم انضم إلى جميعة الشبان المسلمين
عام 1926، وكان أحد مؤسسي فرع حيفا سنة
1928، وفاز برئاسة الفرع عندما جرت
انتخاباته، ثم أصبح عضواً في اللجنة
الإدارية للفراع سنة 1930 ثم عاد رئسياً
للفرع سنة 1933.
وكان
الشيخ القسام يتجول في أنحاء فلسطين
بوصفه موظفاً شرعياً في المحكمة،
وبدأ في تجنيد الشباب في خلايا من 5
أشخاص ، ونشر الدعوة ضد اليهود
والبريطانيين واستطاع أن يؤسس حركة
جهادية تستمد - فهمها من الإسلام
وتتبنى منهجية العمل الجهاد طريقاً
وحيداً لتحرير فلسطين، وبدأ القسام
عملية بناء تنظيم سري اعتبر فيما بعد
أهم منظمة سرية وأعظم حركة فدائية
عرفها تاريخ الجهاد العربي في فلسطين
خلال تلك الفترة .
كان
معقله الرئيسي في الحي القديم في
حيفا، حيث يقطن الفقراء، وأصبحت له
شعبية كبيرة في جميع أنحاء فلسطي،.
وفي عام 1935 نظم خمس لجان هي : الدعوة و
الدعاية - التدريب العسكري - التموين -
الانتخابات - العلاقات الخارجية، كما
نظم ما بين 200- 800 من الأنصار.
وجاءت
أحداث 1935 لتدفعه إلى البدء بالثورة في
تشرين الثاني / نوفمبر من العام نفسه،
وقد اعتبر إعلان حركة القسام للجهاد
تغيراً أساسياً في مسار العمل العربي
ضد المخططات الصهيونية التي كانت
تعتمد على الجهود السياسية في محاولة
الإصلاح والتغيير وتحقيق أماني أبناء
الشعب الفلسطيني، والتجأ القسام مع 52
رجلاً من أنصاره في 12 / تشرين الثاني -
نوفمبر 1935 إلى ضواحي مدينة جنين ودعا
الفلاحين الفلسطينيين لمهاجمة
القوات البريطانية في يعبد، وحاصرته
القوات البريطانية وطلبت منه
الاستسلام إلا أنه رفض، واستشهد مع
اثنين من أتباعه، وتم أسر آخرين بعد
معركة عنيفة خاضها القسام ورفاقه.
وأثار
استشهاده الفلسطينيين في جميع أنحاء
البلاد، وكانت جنازته بمثابة حداد
وطني شامل في فلسطين. ويعتبر تنظيم
القساميين الأول من نوعه نوعاً
وهدفاً، إذ كان تنظيماً مسلحاً
يستهدف اليهود والبريطانيين، وكان
تنظيماً يقوم على الانتماء الإسلامي،
وساهمت ثورة القسام واستشهاده في خلق
وعي اسلامي ووطني فلسطيني بضرورة
استعمال القوة لمقاومة المشروع
الصهيوني في فلسطين، لا سيما أن
القسام شيخ وعالم شريعة قدم من سوريا
ليقيم ويجاهد في فلسطين .
ولكن
استشهاد القسام لم يخمد الثورة بل أجج
نيرانها فكانت الثورة الفلسطينية
الكبرى عام 1936، والتي اعتبرت من أطول
الثورات في تاريخ القضية الفلسطينية،
حيث عمت المظاهرات والإضراب العام
مدن وقرى فلسطين وكانت التحرك الشامل
الأول من نوعه حيث تداخلت الوسائل
المدنية للثورة مع العمليات الجهادية
.
ويشير
المؤرخون إلى أن من الأسباب غير
المباشرة التي أدت الى قيام الثورة :
-
تزايد عدد العمال العاطلين عن العمل .
-
الهجرة اليهودية المستمرة ، والتواطؤ
البريطاني الظاهر معها ومع كل جهود
تنفيذ المشروع الصهيوني .
-
تسرب الأراضي إلى اليهود ، بسبب
الضغوط البريطانية على أصحابها العرب
.
-
الأزمة الاقتصادية الخانقة عام 1935 .
-
ما حدث في مصر وسوريا ضد الاستعمار
البريطاني والفرنسي .
-
الهجوم الإيطالي على الحبشة، الذي
أحيا الأمل بحرب جديدة تعيد رسم
سياسات جديدة في المنطقة .
-
زيادة التوتر بين العرب واليهود في
خريف عام 1935 .
وبدأت
الأحداث في 15 نيسان / ابريل 1936 عندما
قتلت المنظمات الفدائية مستوطناً
صهيونياً وجرحت اثنين آخرين على طريق
نابلس - طولكرم.
وفي
الليلة التالية قتل اليهود مدنيين
عربيين على الطريق العام إلى الشمال
من مستعمرة عليبي، وعند تشييع جنازة
المستوطن اليهودي حدثت اشتباكات مع
العرب، وحدثت صدامات على حدود يافا-
تل أبيب .
وأعلنت
السلطات البريطانية منع التجول في
يافا- تل أبيب، وفرضت حالة الطوارئ في
جميع البلاد، وتشكلت في 20 نيسان /ابريل
1936 لجنة عربية في نابلس اعلنت الاضراب
العام،
وبعد
أن زاد عدد القوات البريطانية إلى
قرابة 20 ألف جندي حصلت معارك عنيفة
بين الثوار والقوات البريطانية
والصهيونية في شهر تشرين الأول عام
1935. وقامت وفود فلسطينية بزيارات إلى
عمّان والرياض وبغداد، ونتيجة
لضغوطات بريطانية، قام الملوك
والرؤساء العرب بإصدار نداء مشترك في
10 تشرين أول/ أكتوبر 1935 دعوا فيه العرب
إلى «وقف الثورة، والاعتماد على
النيات الطيبة" لصديقتنا بريطانيا
العظمى التي أعلنت أنها ستحقق
العدالة».
ونتيجة
لذلك دعت اللجنة العربية العليا إلى
وقف الإضراب، وإلى حل التنظيمات
العربية وعودة الثوار العرب إلى
دولهم .
وكانت
حصيلة هذه الثورة : مقتل 16 رجل بوليس و22
جندياً بريطانياً، وجرح 104 رجال بوليس
و148عسكرياً، ومقتل 80 مستوطناً
صهيونياً وجرح 308 مستوطن صهيوني . أما
العرب فقد استشهد منهم 145 رجلاً وجرح
804 آخرون .
وأرسلت
بريطانيا لجنة بيل الملكية لتقصي
الحقائق إلى فلسطين، ولكن
الفلسطينيين أرادوا عدم مقابلتها،
فهدد الملوك العرب الفلسطينيين،
وطلبوا منهم الموافقة على مقابلة
اللجنة .
غير
ان الثورات لم تتوقف إذ تجددت بعد
مقتل أندروز حاكم الجليل البريطاني
وأقدم البريطانيون على اتخاذ سلسلة
اجراءات انتقامية ضد القادة العرب في
فلسطين مما جدد الثورة وعمت البلاد
ثورة مسلحة أرغمت البريطانيين على
التراجع عن عدد من مواقفهم السياسية
التي كانوا يعتزمون بموجبها فرض
تقسيم لفلسطين بين العرب والصهاينة .
أما
الضربة الأشد التي تلقاها الجهاد
العربي في فلسطين فكان هزيمة الجيوش
العربية في حرب العام 1948، مما أحدث
تحولات كبيرة في بنيان المقاومة
والجهاد وسحب المبادرة من يد الشعب
عملياً، وأحال الفلسطينيين إلى شأن
رسمي تحكمه التوازنات الداخلية
وسياسات الأنظمة .
إلا
أن ظهور المنظمات الفدائية أعاد في
البداية الاعتبار للدور الشعبي في
مواجهة المشروع الصهيوني وزج
بالجماهير كطرف أساسي في المعادلة
وهو طرف أرغم الأنظمة الرسمية على
تبني مواقف ساهمت في الحيلولة دون
تمدد الدولة العبرية وإحباط مشاريعها
أحياناً .
وبسبب
أخطاء قيادات منظمات المقاومة تقلص
دور الجماهير وتحولت منظمة التحرير
الفلسطينية التي أصبحت مظلة العمل
الفلسطيني إلى شبه سلطة على الجماهير
وحركتها، وهو وَضْعٌ حدَّ كثيراً من
حركتها بسبب تشابك المصالح الخاصة
بالمنظمة وقيادتها مع مصالح الأنظمة
العربية والقوى الاقليمية
وبسبب
أخطاء قيادات منظمات المقاومة تقلص
دور الجماهير وتحولت منظمة التحرير
الفلسطينية التي أصبحت مظلة العمل
الفلسطيني إلى شبه سلطة على الجماهير
وحركتها، وهو وَضْعٌ حدَّ كثيراً من
حركتها بسبب تشابك المصالح الخاصة
بالمنظمة وقيادتها مع مصالح الأنظمة
العربية والقوى الاقليمية والدولية .
إلا
أن طبيعة المشروع الصهيوني وأبعاده
التي تتعرض لحياة الانسان العادي
ووجوده ظلت محفزاً أساسياً للجماهير
من أجل الانخراط في مقاومة المشروع
وابتكار وسائل مناسبة لذلك، فكانت
الثورات الشعبية التي توجها الشعب
الفلسطيني بانتفاضته المباركة عام 1987
وظهور حركة المقاومة الاسلامية "حماس"
التي نشأت وترعرعت خارج رحم السلطة
وفي أحضان الشعب الرئيسي والجماهيري
باعتبارهم المستهدف الأول من المشروع
الصهيوني والمتضرر الرئيسي من
إجراءات الصهاينة، وخط الدفاع الذي
لا ينكسر في مواجهة المشروع
الصهيوني، فالأنظمة والنخب قد تفتر
وقد تهزم وقد تنمحي غير أن الشعب
والجماهير لا تموت مهما أثخنتها
الجراح فتظل قادرة على النهوض من جديد
والمقاومة حتى النصر .
لا
يمكن التعامل مع الصراع الدائر فوق
ارض فلسطين المحتلة كصراع نموذجي من
الصراعات البشرية العادية، كما لا
يمكن اعتبار هذا الصراع امتداداً
لصراعات لم تتوقف بين القوى المختلفة
للسيطرة على أرض فلسطين لأسباب
اقتصادية أو عسكرية أو حتى دينية .
فالصراع
الذي تحياه الأمة - بدرجات متفاوتة -
مع العدو الصهيوني يشكل صراعاً
تتداخل فيه الظروف التاريخية
والسياسية وعوامل الاقتصاد والدين
وحتى الرؤية الحضارية للمنطقة
العربية والإسلامية ودورها في موكب
الحضارة الإنسانية .
ويكفي
استعراض المراحل التاريخية التي مرت
بها القضية الفلسطينية لتوضيح هذه
الحقيقة فبينما كان التنافس
الإستعماري الاوروبي يشتد في نهاية
القرن الثامن عشر لوراثة
الإمبراطورية العثمانية، والسيطرة
على طريق الهند الإستراتيجي، ويشكل
عاملاً أساسياً لرسم سياسات الدول
الأوروبية، حاول الحركيون اليهود -
بدعم أوروبي شاركت فيه آنذاك ألمانيا
وبريطانيا - الضغط على الخلافة
العثمانية لانتزاع ميثاق من السلطان
عبد الحميد الثاني يمنح اليهود حق
الإستيطان في فلسطين والسماح بهجرتهم
إليها، غير أن السلطان العثماني رفض
الضغوط الأوروبية وإغراءات اليهود .
وفي
الفترة بين عامي 1900- 1901 أصدر السلطان
عبد الحميد بلاغاً يمنع المسافرين
اليهود من الإقامة في فلسطين لأكثر من
ثلاثة أشهر، كما أمر بمنع اليهود من
شراء أي أرض في فلسطين، خشية أن تتحول
هذه الأراضي إلى قاعدة لهم تمكنهم من
سلخ فلسطين عن بقية الجسد المسلم .
وفي
عام 1902 تقدم اليهود بعرض مغر للسلطان
عبد الحميد يتعهد بموجبه أثرياء
اليهود بوفاء جميع ديون الدولة
العثمانية وبناء أسطول لحمايتها،
وتقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية
لخزينة الدولة العثمانية المنهكة،
إلا أن السلطان رفض العروض وكان رده
كما جاء في مذكرات ثيودور هرتزل: (انصحوا
الدكتور هرتزل ألا يتخذ خطوات جدية في
هذا الموضوع، لأني لا استطيع أن أتخلى
عن شبر واحد من الارض، فهي ليست ملك
يميني بل ملك شعبي، لقد ناضل شعبي في
سبيل هذه الارض ورواها بدمائه،
فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت
امبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن
يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي
فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من
أن أرى فلسطين قد بترت من
الامبراطورية الاسلامية، وهذا أمر لا
يكون، فأنا لا استطيع الموافقة على
تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة .. )
.
وعندما
أيقن اليهود بفشل جميع المحاولات
الممكنة بدأوا بالعمل على إسقاط
الخلافة العثمانية، حيث استطاعوا
التسرب عن طريق طائفة يهود الدونمة
التي تظاهر أفرادها بالإسلام وحملوا
الأسماء التركية، ودخلوا في جميعة
"الاتحاد والترقي" ووصلوا الى
الحكم سنة 1907، وتصاعد النشاط
الصهيوني في فلسطين بدعم من أنصار
الاتحاد والترقي ويهود الدونمة الذين
سيطروا على مقاليد السلطة في
الاستانة حيث سمح الحاكم العثماني
الجديد لليهود بالهجرة إلى فلسطين
وشراء الأراضي فيها، مما فتح أمام
المنظمات الصهيونية للبدء بالنشاط
العملي على نطاق واسع حتى سقطت
الخلافة رسمياً سنة ( 1924) واحتلت
الجيوش البريطانية فلسطين .
لقد
التقت المصالح الاستعمارية
الاوروبية في انتزاع فلسطين من الوطن
العربي مع المصالح الصهيونية بإقامة
وطن قومي لليهود، بل إن قادة أوروبا
هم الذين عرضوا على اليهود إقامة وطن
لهم في فلسطين، قبل أن تطرح الحركة
الصهيونية الفكرة بسنوات طويلة، وعلى
الأخص من جانب فرنسا وبريطانيا في
محاولة للتخلص من المشكلة اليهودية
في أوروبا وتحقيق مكاسب استعمارية من
الدولة اليهودية .
كان
التنافس الاستعماري بين بريطانيا
وفرنسا واضحاً في الشرق الأوسط، حتى
قبل قيام الحركة الصهيونية، وكان هدف
كل منهما حماية مصالحه في المنطقة،
وملاحقة الدولة الأخرى من إجل
إيذائها أو منافستها على تلك
المصالح، وإيجاد الوسائل المختلفة
التي تحمي مصالحها واعتقدت بريطانيا
بعد فشل نابليون بونابرت في مصر وبلاد
الشام، أنه من المفيد إيجاد بدائل
اخرى في الشرق الأوسط، لاستمرار
تفوقها على فرنسا. وقد وجدت في فلسطين
مكاناً ملائماً لبسط نفوذها بسبب
الموقع الجغرافي الذي تتمتع فيه وسط
الوطن العربي وباعتبارها البوابة
التي تربط بين أسيا وأفريقيا، ولهذا
فإن من مصلحة الاستعمار الاوروبي
والبريطاني بالذات، فصل الجزء
الاسيوي عن الجزء الأفريقي من الوطن
العربي، وخلق ظروف لا تسمح بتحقيق
الوحدة بين الجزءين في المستقبل .
بدأ
الموقف البريطاني يتضح بعد حملة محمد
علي باشا والي مصر الى الشام، عندما
أرسل ابنه ابراهيم باشا الى المنطقة،
مما أثار بريطانيا لأنها خشيت أن
تتوحد مصر مع بلاد الشام في دولة
واحدة، لهذا ساهمت بريطانيا مع
الدولة العثمانية في إفشال حملة
ابراهيم باشا على بلاد الشام .
وبعد
تدخل بريطانيا، أرسل بالمرستون رئيس
وزراء بريطانيا مذكرة إلى سفيره في
استانبول في عام 1840، شرح فيها الفوائد
التي سوف يحصل علىها السلطان
العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى
فلسطين وقال :« إن عودة الشعب اليهودي
إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت
حمايته يشكل سداً في وجه مخططات
شريرية يعدها محمد علي أو من يخلفه » .
وفي
مارس / آذار 1840 وجه البارون اليهودي
روتشيليد خطاباً إلى بالمر ستون قال
فيه : «إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه
في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب
بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم
القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم
واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة
هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن
فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر
وبين العرب في أسيا. وكانت فلسطين
دائماً بوابة على الشرق. والحل الوحيد
هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في
هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة
حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه،
وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين
تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك
خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض
الميعاد مصداقاً للعهد القديم،
ولكنها أيضاً خدمة للامبراطورية
البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم
الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد
علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو
بقيام الاتصال بين مصر والعرب
الآخرين».
هاتان
الوثيقتان الصادرتان عن بريطانيا
وأحد زعماء اليهود، تظهران التقاء
مصالح الطرفين في محاربة قيام دولة
عربية موحدة، وأن ذلك لا يتم إلا من
خلال إقامة دولة دخيلة لليهود في قلب
المنطقة العربية ، وقد دعا تقرير
بريطاني اعدته لجنة شكلها رئيس وزراء
بريطانيا (هنري كمبل- بانزمان) عام 1907
إلى العمل من أجل إبقاء المنطقة
العربية مجزأة ومتأخرة وإلى «محاربة
اتحاد الجماهير العربية أو ارتباطها
بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو
الروحي أو التاريخي، وذلك من خلال
العمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه
المنطقة عن جزئها الآسيوي، عن طريق
إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر
البري الذي يربط آسيا وإفريقيا، بحيث
يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من
قناة السويس قوة صديقة لنا وعدوة
لسكان المنطقة » .
وهو
ما أمكن تحقيقه جزئياً من خلال
اتفاقية سايكس - بيكو (1916) وبموجب
الاتفاقية حصلت فرنسا على أجزاء من
سوريا وجنوب الأناضول وعلى منطقة
الموصل في العراق ولونت باللون
الازرق، وحصلت بريطانيا على أراضي
جنوب سوريا إلى العراق شاملة بغداد
والبصرة والمناطق الواقعة بين الخليج
العربي والأراضي الممنوحة لفرنسا
وميناءي عكا وحيفا ولونت باللون
الأحمر ، أما بقية مناطق فلسطين فقد
لونت باللون البني، واتفق على أن تكون
دولية، وهكذاحقق الاستعمار
البريطاني والفرنسي مؤامرته ضد قيام
وحدة بين جزئي الوطن العربي .
في
أعقاب الاتفاقية عمد قادة الحركة
الصهيونية وعلى رأسهم اللورد روتشيلد
وحاييم وايزمان لاجراء اتصالات مع
بريطانيا أدت إلى إصدار وعد بلفور،
وكان من الأسباب التي دفعت بريطانيا
للموافقة على الوعد هو أن تكون الدولة
اليهودية خط الدفاع الأول عن قناة
السويس واستمرار تجزئة الوطن العربي،
وقد أصدر القرار في 2 تشرين ثاني /
نوفمبر 1917 وزير الخارجية البريطاني
آنذاك آرثر بلفور، ونص القرار الذي
جاء على هيئة رسالة من بلفور إلى
روتشيلد على أن «حكومة صاحب الجلالة
تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي
للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل
غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية،
على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من
شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية
والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير
اليهودية المقيمة الآن في فلسطين،
ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي
يتمتع به اليهود في البلدان الاخرى،
وسأكون
ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد
الصهيوني علماً بهذا التصريح »
وفي
11 كانون أول / ديسمبر 1917 دخلت الجيوش
البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي
القدس وبدأت في تنفيذ وعد بلفور
عملياً وحدثت على أثر ذلك صدامات بين
العرب واليهود وتشكلت جمعيات عربية
ضد المشروع الصهيوني ،عندما أراد
اليهود الاحتفال بمرور عام على وعد
بلفور هدد العرب بالتظاهر غير أن
المندوب السامي البريطاني هربرت
صموئيل هدد بإلقاء القبض على كل عربي
يتظاهر .
وعلى
إثر إعلان هذا الوعد عمت الاحتجاجات
جميع أنحاء فلسطين وبعض الاقطار
العربية، وتأكد الفلسطينيون أن
بريطانيا ماضية في فصل بلادهم عن
الاقطار العربية، لا سيما بعد أن فرضت
عصبة الأمم المتحدة الانتداب
البريطاني على فلسطين عام 1919 .
وحاولت
بريطانيا تهدئة العرب، في الوقت الذي
كانت تسعى فيه إلى فصل فلسطين عن بلاد
الشام، ولكنها لم تنجح، حيث قام
الفلسطينيون بأول ثورة شعبية عام 1920 .
وخلال
انعقاد مؤتمر فرساي في كانون ثاني /
يناير 1919 قدمت الحركة الصهيونية إلى
المؤتمر خطة مدروسة واضحة المعالم
لتنفيذ مشروعها، دعت إلى :
1-
إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد
بلفور .
2-
أن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا
ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران
وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء
سيناء المصرية .
وفي
هذا المؤتمر، وضعت سياسة الانتداب
على المستعمرات التي كانت تابعة
لألمانيا وتركيا قبل الحرب. كما دعا
المؤتمر إلى تشكيل عصبة الأمم
المتحدة لتكون تلك الدول بريطانيا
وفرنسا مندوبة عن عصبة الامم .
وفي
31 أيار/مايو 1920م صدر إعلان الانتداب
على فلسطين في مؤتمر سان ريمو وعين
البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل
مندوباً سامياً في القدس، وكان
وزيراً للداخلية البريطانية
ومتعاطفاً مع الصهاينة .
وبعد
ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب
بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا
عن مضمون وعد بلفور، واحتج
الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة
بين الحرس البريطاني والعرب . كما
منعت بريطانيا المؤتمر الفلسطيني
الثاني من الانعقاد في حيفا عام 1920 ،
بعد أن أصبح تشرشل وزيراً للمستعمرات
عقد مؤتمراً في القاهرة للعسكريين
والموظفين البريطانيين لمراجعة
الوضع البريطاني في المنطقة، حيث
أوصى المؤتمر :
-
الاستمرار في تنفيذ وعد بلفور، لأن
بريطانيا ملزمة بإنشاء وطن قومي
لليهود .
-
ان تشكل في شرق الاردن مقاطعة عربية
بقيادة الأمير عبدالله يكون مسؤولاً
عنها أمام المندوب البريطاني دون أن
تكون المقاطعة مشمولة في النظام
الإداري لفلسطين، ودون أن تنطبق
عليها شروط الانتداب. وليكون شرق
الاردن مستعداً لاستقبال من يضطر من
الفلسطينيين للمغادرة .
بدأت
تتضح معالم المخطط البريطاني -
الصهيوني في فلسطين منذ مطلع القرن
العشرين، حيث أعلن الفلسطينيون رفضهم
له، وأثاروا مخاطر هجرة اليهود الى
فلسطين على الوجود العربي في فلسطين،
وحذورا من السكوت على استمرار هذه
الهجرة إلى بلادهم.
ويلاحظ
أن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا
يصرون على اعتبار فلسطين جزءاً من
سورية الكبرى، ويرفضون تجزئة النضال،
أو طرح مطالب إقليمية خاصة بهم، على
الرغم من خصوصية قضيتهم لاختلاف
الخطر عليهم عن بقية أبناء سورية
الكبرى حيث إنهم كانوا مهددين
بالهجرة اليهودية إلى بلادهم بتشجيع
من الانتداب البريطاني، بينما كانت
بقية الأقطار العربية تعاني من
الاستعمار البريطاني او الفرنسي من
دون أن تشكل الهجرة اليهودية أي تهديد
ضدها.
ولذلك
نجد أن الأمور تطورت في العشرينات،
وبدأت تخرج أصوات من داخل فلسطين
تطالب بالاستقلال الوطني الفلسطيني ،
بعد إثارة كل قطر من الأقطار العربية
لمشاكله الخاصة ودعوته للاستقلال
القطري، وهو ما كانت تطمح إليه فرنسا
وبريطانيا في المنطقة، على أساس أن
يقوم كل قطر عربي بمواجهة مشاكله
الخاصة به. وبدأ مفهوم "الدولة
العربية الموحدة" التي وعدت
بريطانيا بها الشريف حسين بن علي
بالأفول في ظل الوجود الاستعماري
الاوروبي، وانكفأ كل شعب في سورية
الكبرى على نفسه، يعمل وحده ضد الوجود
الاستعماري في بلاده. وانعكس هذا
الأمر على القضية الفلسطينية التي
سارت هي أيضاً ضمن هذا التوجه. وبدأ
بعض الفلسطينيين يطالبون باستقلال
فلسطين دون اعتبار انهم جزء من جنوب
سورية . وفي الوقت الذي كان فيه الشعب
الفلسطيني يناضل ضد وعد بلفور وتزايد
الهجرة اليهودية الى فلسطين بالتواطؤ
مع الانتداب البريطاني، كانت الشعوب
العربية مشغولة هي الاخرى بالعمل ضد
الوجود الاستعماري في أراضيها، ولهذا
فقد زادت الحركة الصهيونية من قوتها
في الثلاثينات والأربعينات بمساعدة
بريطانيا في غيبة الأمة العربية
والإسلامية التي كانت تخوض معركة،
وعندما استقلت الأقطار العربية أوائل
الاربعينات، كان الوقت متأخراً جداً
لكي تساهم تلك الجماهير مع الشعب
الفلسطيني في معركته ضد الحركة
الصهيونية وبريطانيا، إذ أعلن عن
قيام الكيان الصهيوني، وكانت النتيجة
ضياع فلسطين في حرب عام 1948، ودخلت منذ
ذلك الوقت القضية الفلسطينية في
أروقة السياسية العربية .
غير
أن الصهاينة ظلوا يعتقدون أن كيانهم
الذي أعلن فوق الأراضي المحتلة عام 1948
لم يشكل كل الأراضي التي يعتبرونها
أرض اسرائيل، فكان أن استغل الصهاينة
السنوات التالية لاعلان كيانهم من
أجل تعزيز قوتهم العسكرية وطرد
الكثير من المواطنين العرب من
أراضيهم، وفي العام 1956 شاركت الدولة
اليهودية مع فرنسا وبريطانيا في
عدوان ضد مصر، وأبلغ ديفيد بن غوريون
الكنيست أن من أهداف مشاركة الدولة
اليهودية في العدوان «تحرير ذلك
الجزء من الوطن القومي (شبه جزيرة
سيناء) الذي كان يحتله الغزاة » .
غير
أن البعد الاستراتيجي لاحتلال سيناء
كان إبعاد القوات المصرية عن حدود
الدولة اليهودية والحيلولة دون
عبورها قناة السويس مما يتيح لها
مهاجمة الكيان الصهيوني والوصول إلى
النقب، وكان الصهاينة يرون في صحراء
النقب هدفاً حيوياً يتوجب الدفاع عنه
مهما كلف الأمر لأنها تشطر الوطن
العربي إلى شطرين وتمنع الاتصال
البري بينهما، وقد طالب الصهاينة
الأمم المتحدة عام 1947 بالنقب، ولما
اقترح الوسيط الدولي الكونت برنادوت
عام 1948 ارجاع النقب للمواطنين العرب
أقدم الصهاينة على اغتياله في اليوم
التالي لاعلان اقتراحه .
ولم
تفلح الجهود الاستعمارية في تحقيق
الأهداف الصهيونية من خلال عدوان 1956،
غير أن الجهود العربية ظلت قاصرة
ومترددة مما منح الصهاينة فترة ذهبية
لتعزيز قدراتهم العسكرية والتخطيط
للهجوم حتى كان العام 1967 عندما اجتاحت
القوات الصهيونية الضفة الغربية
وقطاع غزة وهما ما تبقى من فلسطين بعد
حرب العام 1948 تحت السيادة العربية،
كما تمكن الصهاينة من احتلال شبه
جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات
الجولان السورية ، وقد انسحبت قوات
الاحتلال اليهودي من سيناء بموجب
اتفاقيات سلام مع مصر وضمن شروط تجعل
من البوابة الشرقية لمصر مشروعة
عملياً أمام أي محاولة اجتياح
يهودية، فيما لا زالت الدولة
الصهيونية تحتل الضفة الغربية وقطاع
غزة ومرتفعات لبنان إلى جانب شريط
حدودي من جنوب لبنان .
المقاومة
العربية
لم
تتوقف جهود العرب في الدفاع عن حقوقهم
في فلسطين منذ مطلع القرن ففي العام
1918تشكلت جمعية الفدائية وهي جمعية
سرية ضمت عدداً من رجال الشرطة
الفلسطينية ، وقد لعبت الجمعية دوراً
مهماً في الإعداد للثورة العربية في
فلسطين وفي نشر الوعي بالخطر
الصهيوني بين عشائر البدو في شرق
الأردن ضد اليهود غير أن اعتقال
زعمائها أضعفها وقضى عليها غير أنه لم
يوقف جهاد الفلسطينيين والعرب ضد
المخططات الصهيونية فكانت ثورة النبي
موسى (4 -10 نيسان /أبريل 1920) وثورة يافا
(1-5 أيار / مايو 1921)، ثورة البراق ( 15آب /
أغسطس 1929) وهي مواجهات محدودة كانت
دوافعها عاطفية، ولم تكن منظمة مما
حدّ من إمكانات تطورها أو تحقيق
أهدافها وان كانت لعبت دوراً في تأجيج
الصراع وتعطيل المشروع الصهيوني
جزئياً وبشكل مؤقت .
في
المقابل نظم مجاهدون قوى مقاومة كان
أهمها حركة الشيخ المجاهد عز الدين
القسام (1935) وكان الشيخ القسام قدم إلى
حيفا من سوريا بعد إنهيار الثورة
السورية ضد فرنسا، وبدأ نشاطه كمعلم
،ثم انضم إلى جميعة الشبان المسلمين
عام 1926، وكان أحد مؤسسي فرع حيفا سنة
1928، وفاز برئاسة الفرع عندما جرت
انتخاباته، ثم أصبح عضواً في اللجنة
الإدارية للفراع سنة 1930 ثم عاد رئسياً
للفرع سنة 1933.
وكان
الشيخ القسام يتجول في أنحاء فلسطين
بوصفه موظفاً شرعياً في المحكمة،
وبدأ في تجنيد الشباب في خلايا من 5
أشخاص ، ونشر الدعوة ضد اليهود
والبريطانيين واستطاع أن يؤسس حركة
جهادية تستمد - فهمها من الإسلام
وتتبنى منهجية العمل الجهاد طريقاً
وحيداً لتحرير فلسطين، وبدأ القسام
عملية بناء تنظيم سري اعتبر فيما بعد
أهم منظمة سرية وأعظم حركة فدائية
عرفها تاريخ الجهاد العربي في فلسطين
خلال تلك الفترة .
كان
معقله الرئيسي في الحي القديم في
حيفا، حيث يقطن الفقراء، وأصبحت له
شعبية كبيرة في جميع أنحاء فلسطي،.
وفي عام 1935 نظم خمس لجان هي : الدعوة و
الدعاية - التدريب العسكري - التموين -
الانتخابات - العلاقات الخارجية، كما
نظم ما بين 200- 800 من الأنصار.
وجاءت
أحداث 1935 لتدفعه إلى البدء بالثورة في
تشرين الثاني / نوفمبر من العام نفسه،
وقد اعتبر إعلان حركة القسام للجهاد
تغيراً أساسياً في مسار العمل العربي
ضد المخططات الصهيونية التي كانت
تعتمد على الجهود السياسية في محاولة
الإصلاح والتغيير وتحقيق أماني أبناء
الشعب الفلسطيني، والتجأ القسام مع 52
رجلاً من أنصاره في 12 / تشرين الثاني -
نوفمبر 1935 إلى ضواحي مدينة جنين ودعا
الفلاحين الفلسطينيين لمهاجمة
القوات البريطانية في يعبد، وحاصرته
القوات البريطانية وطلبت منه
الاستسلام إلا أنه رفض، واستشهد مع
اثنين من أتباعه، وتم أسر آخرين بعد
معركة عنيفة خاضها القسام ورفاقه.
وأثار
استشهاده الفلسطينيين في جميع أنحاء
البلاد، وكانت جنازته بمثابة حداد
وطني شامل في فلسطين. ويعتبر تنظيم
القساميين الأول من نوعه نوعاً
وهدفاً، إذ كان تنظيماً مسلحاً
يستهدف اليهود والبريطانيين، وكان
تنظيماً يقوم على الانتماء الإسلامي،
وساهمت ثورة القسام واستشهاده في خلق
وعي اسلامي ووطني فلسطيني بضرورة
استعمال القوة لمقاومة المشروع
الصهيوني في فلسطين، لا سيما أن
القسام شيخ وعالم شريعة قدم من سوريا
ليقيم ويجاهد في فلسطين .
ولكن
استشهاد القسام لم يخمد الثورة بل أجج
نيرانها فكانت الثورة الفلسطينية
الكبرى عام 1936، والتي اعتبرت من أطول
الثورات في تاريخ القضية الفلسطينية،
حيث عمت المظاهرات والإضراب العام
مدن وقرى فلسطين وكانت التحرك الشامل
الأول من نوعه حيث تداخلت الوسائل
المدنية للثورة مع العمليات الجهادية
.
ويشير
المؤرخون إلى أن من الأسباب غير
المباشرة التي أدت الى قيام الثورة :
-
تزايد عدد العمال العاطلين عن العمل .
-
الهجرة اليهودية المستمرة ، والتواطؤ
البريطاني الظاهر معها ومع كل جهود
تنفيذ المشروع الصهيوني .
-
تسرب الأراضي إلى اليهود ، بسبب
الضغوط البريطانية على أصحابها العرب
.
-
الأزمة الاقتصادية الخانقة عام 1935 .
-
ما حدث في مصر وسوريا ضد الاستعمار
البريطاني والفرنسي .
-
الهجوم الإيطالي على الحبشة، الذي
أحيا الأمل بحرب جديدة تعيد رسم
سياسات جديدة في المنطقة .
-
زيادة التوتر بين العرب واليهود في
خريف عام 1935 .
وبدأت
الأحداث في 15 نيسان / ابريل 1936 عندما
قتلت المنظمات الفدائية مستوطناً
صهيونياً وجرحت اثنين آخرين على طريق
نابلس - طولكرم.
وفي
الليلة التالية قتل اليهود مدنيين
عربيين على الطريق العام إلى الشمال
من مستعمرة عليبي، وعند تشييع جنازة
المستوطن اليهودي حدثت اشتباكات مع
العرب، وحدثت صدامات على حدود يافا-
تل أبيب .
وأعلنت
السلطات البريطانية منع التجول في
يافا- تل أبيب، وفرضت حالة الطوارئ في
جميع البلاد، وتشكلت في 20 نيسان /ابريل
1936 لجنة عربية في نابلس اعلنت الاضراب
العام،
وبعد
أن زاد عدد القوات البريطانية إلى
قرابة 20 ألف جندي حصلت معارك عنيفة
بين الثوار والقوات البريطانية
والصهيونية في شهر تشرين الأول عام
1935. وقامت وفود فلسطينية بزيارات إلى
عمّان والرياض وبغداد، ونتيجة
لضغوطات بريطانية، قام الملوك
والرؤساء العرب بإصدار نداء مشترك في
10 تشرين أول/ أكتوبر 1935 دعوا فيه العرب
إلى «وقف الثورة، والاعتماد على
النيات الطيبة" لصديقتنا بريطانيا
العظمى التي أعلنت أنها ستحقق
العدالة».
ونتيجة
لذلك دعت اللجنة العربية العليا إلى
وقف الإضراب، وإلى حل التنظيمات
العربية وعودة الثوار العرب إلى
دولهم .
وكانت
حصيلة هذه الثورة : مقتل 16 رجل بوليس و22
جندياً بريطانياً، وجرح 104 رجال بوليس
و148عسكرياً، ومقتل 80 مستوطناً
صهيونياً وجرح 308 مستوطن صهيوني . أما
العرب فقد استشهد منهم 145 رجلاً وجرح
804 آخرون .
وأرسلت
بريطانيا لجنة بيل الملكية لتقصي
الحقائق إلى فلسطين، ولكن
الفلسطينيين أرادوا عدم مقابلتها،
فهدد الملوك العرب الفلسطينيين،
وطلبوا منهم الموافقة على مقابلة
اللجنة .
غير
ان الثورات لم تتوقف إذ تجددت بعد
مقتل أندروز حاكم الجليل البريطاني
وأقدم البريطانيون على اتخاذ سلسلة
اجراءات انتقامية ضد القادة العرب في
فلسطين مما جدد الثورة وعمت البلاد
ثورة مسلحة أرغمت البريطانيين على
التراجع عن عدد من مواقفهم السياسية
التي كانوا يعتزمون بموجبها فرض
تقسيم لفلسطين بين العرب والصهاينة .
أما
الضربة الأشد التي تلقاها الجهاد
العربي في فلسطين فكان هزيمة الجيوش
العربية في حرب العام 1948، مما أحدث
تحولات كبيرة في بنيان المقاومة
والجهاد وسحب المبادرة من يد الشعب
عملياً، وأحال الفلسطينيين إلى شأن
رسمي تحكمه التوازنات الداخلية
وسياسات الأنظمة .
إلا
أن ظهور المنظمات الفدائية أعاد في
البداية الاعتبار للدور الشعبي في
مواجهة المشروع الصهيوني وزج
بالجماهير كطرف أساسي في المعادلة
وهو طرف أرغم الأنظمة الرسمية على
تبني مواقف ساهمت في الحيلولة دون
تمدد الدولة العبرية وإحباط مشاريعها
أحياناً .
وبسبب
أخطاء قيادات منظمات المقاومة تقلص
دور الجماهير وتحولت منظمة التحرير
الفلسطينية التي أصبحت مظلة العمل
الفلسطيني إلى شبه سلطة على الجماهير
وحركتها، وهو وَضْعٌ حدَّ كثيراً من
حركتها بسبب تشابك المصالح الخاصة
بالمنظمة وقيادتها مع مصالح الأنظمة
العربية والقوى الاقليمية
وبسبب
أخطاء قيادات منظمات المقاومة تقلص
دور الجماهير وتحولت منظمة التحرير
الفلسطينية التي أصبحت مظلة العمل
الفلسطيني إلى شبه سلطة على الجماهير
وحركتها، وهو وَضْعٌ حدَّ كثيراً من
حركتها بسبب تشابك المصالح الخاصة
بالمنظمة وقيادتها مع مصالح الأنظمة
العربية والقوى الاقليمية والدولية .
إلا
أن طبيعة المشروع الصهيوني وأبعاده
التي تتعرض لحياة الانسان العادي
ووجوده ظلت محفزاً أساسياً للجماهير
من أجل الانخراط في مقاومة المشروع
وابتكار وسائل مناسبة لذلك، فكانت
الثورات الشعبية التي توجها الشعب
الفلسطيني بانتفاضته المباركة عام 1987
وظهور حركة المقاومة الاسلامية "حماس"
التي نشأت وترعرعت خارج رحم السلطة
وفي أحضان الشعب الرئيسي والجماهيري
باعتبارهم المستهدف الأول من المشروع
الصهيوني والمتضرر الرئيسي من
إجراءات الصهاينة، وخط الدفاع الذي
لا ينكسر في مواجهة المشروع
الصهيوني، فالأنظمة والنخب قد تفتر
وقد تهزم وقد تنمحي غير أن الشعب
والجماهير لا تموت مهما أثخنتها
الجراح فتظل قادرة على النهوض من جديد
والمقاومة حتى النصر .