الـسلام علـيكم ورحمـة الله وبـركاته
إنَّ خلق الصبر خلقٌ كريم ووصفٌ عظيم وصف الله به الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ووصف به الصالحين،
فقال الله –تعالى-: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .. } [الأحقاف: 35]،
وقال –تعالى-: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85]،
وقال -تعالى-: {..وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ*الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ..} [الحج: 34 – 35].
وعن أنس مرفوع: (الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر)،
وروى مسلم من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان،
وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقران حجة لك أو عليك)
.. والآيات والأحاديث في الصبر كثيرة شهيرة .
ومعنى الصبر: حبس النفس على الطاعة وكفها عن المعصية على الدوام.
إنَّ الصبر أنواعٌ متلازمةٌ لا ينفك بعضها عن بعض؛ فمن أعظم أنواع الصبر،
الصبر عن المعصية والمحرمات
قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22].
وأكثر الناس يقدر على فعل الطاعة ويصبر عليها، ولكنه لا يصبر عن المعصية،
فلقلَّة صبره عن المحرَّم لا يكون من الصابرين، ولا ينال درجة المجاهدين الصابرين، فلا يَعْصِم من ورود الشهوات إلا الصبر القوي والورع الحقيقي.
والمسلم إذا لم يكن متصفًا بالصبر؛ فقد تأتي عليه ساعةٌ تلوح له لذةٌ عاجلة، أو منفعةٌ قريبة، أو شهوةٌ عابرة،
أو كبيرةٌ موبقة؛ فتخور عزيمته، وتضعف إرادته ويلين صبره؛ فيغشى المحرم، فيقع في الموبقات، فيشقى شقاءً عظيمًا،
ويلقى عذابًا أليمًا، والإنسان إذا لم يحجزه صبره وإيمانه عن المحرمات؛ كان مآله في الدنيا الذلة والهوان أو السجن،
وفي الآخرة جهنم وساءت مصيرًا مهما كان قد أوتي حظًّا في الدنيا.
والنوع الثاني من الصبر -وهو أعظمها- هو: الصبر على طاعة الله -تبارك وتعالى- على الدوام؛
بالصبر على أدائها، وإصابة الحق فيها، واتباع السُّنة بعملها، والصبر على المداومة عليها، قال الله -تعالى-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الحجر 99،
وقال -عزَّ وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
والنوع الثالث من الصبر هو: الصبر على الأقدار والصبر على المصائب والمكاره التي تصيب العباد.
وذلك الصبر لا يكون محمودًا إلَّا مع الاحتساب، بأن يعلم أنَّ المصيبة التي وقع فيها هي بسبب المعصية،
وأنَّ المصائب كلها بقضاء الله وقدره، وأنَّ من صبر؛ أُجِر، وأمر الله نافذ، وأنَّ من جزع وتسخط؛ أَثِمَ، وأمر الله نافذ،
قال الله -تبارك وتعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أراد الله بعبده خيرًا؛ عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر،
أمسك عنه بذنبه حتى يُوافَى به يوم القيامة، وإن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم ؛
فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)[1].
ولقد أمر الله بالصبر في آيات كثيرة من كتابه؛ فالأمر بالصبر أمرٌ مطلق
كما في قوله -تبارك وتعالى-: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} [النحل: 127].
- وأمر بالصبر في أمور مخصوصة؛ لشدة الحاجة للصبر فيها؛ فأمر بالصبر لحكم الله الشرعي والقدري،
قال الله –تعالى-: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24].
- وأمر بالصبر على أذى الكافرين، فقال -تبارك وتعالى-: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186].
- وأمر بالصبر على ما يترتب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما يترتب على ذلك من المشقة، قال الله
-تبارك وتعالى- عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
- وأمر بالصبر من وُلي شيئًا من أمر المسلمين قليلًا كان أو كثيرًا؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر).
- وأمر الله المسلم أن يستعين بالله في التخلُّق بالصبر والتمسك بالطاعة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 45].
- وأمر أن يعوِّد المسلم نفسه على خلق الصبر في كل حالة وفي كل موطن؛ فإن العادة تساعد على الخلق،
وفي الصحيحين: (ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغنِ يغنه الله)، ووعد الله على الصبر أعظم الثواب والنجاة من العقاب،
فقال -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال الله عن ثواب الصابرين {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*
سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22 – 24].
إن الصبر مر المذاق في ساعة الحال، حلو المذاق في العاقبة والمآل، قال -تبارك وتعالى-: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 126- 127]،
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ *
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 58 – 59]. فما أعظم سعادة من صبر على الطاعات، وجانَبَ المحرَّمات، واحتسب أجر الأقدار والمصيبات،
كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما الصبر عند الصدمة الأولى ).
عفوا منقول
تقبلو تحياتي
محمد عليوي
القيصر