دير ياسين ... مكان في الذاكرة ... وحكاية ظلم لم تنتهي
كانت القرية تقع على المنحدرات الشرقية لتل يبلغ علو قمته 800متر, وتطل على مشهد واسع من
الجهات كلها. وكانت القرية تواجه الضواحي الغربية للقدس- التي تبعد عنها كيلومترا واحدا-
ويفصل بينها واد ذو مصاطب غرست فيها أشجار التين واللوز والزيتون. وكان هناك في موازاة
الطرف الشمالي للوادي طريق فرعية تربط دير ياسين بهذه الضواحي, وبطريق القدس- يافا
الرئيسي الذي يبعد عنها نحو كيلومترين شمالا. وليست كلمة (دير) بغريبة عن أسماء القرى
الفلسطينية, ولا يكاد يستهجن إطلاقها على قرية قريبة من القدس إلى هذا الحد. وفعلا فقد كان ثمة
في الطرف الجنوبي الغربي للقرية طلل كبير يطلق عليه اسم ( الدير) فقط.
يبدو أن نواة الاستيطان في بداية العهد العثماني كانت في خربة عين التوت( 166132 ), التي تبعد
نحو 500 متر إلى الغرب من موقع القرية خلال سنة 1948. في سنة 1596, كانت قرية خربة
عين التوت تقع في ناحية القدس ( لواء القدس), ولا يتجاوز عدد سكانها 39 نسمة. وكانت تؤدي
الضرائب على القمح و الشعير وأشجار الزيتون.
لا نعلم بالتحديد متى انتقل السكان إلى موقع دير ياسين لكن يبدو جليا أن مصدر الاسم الأخير
يعود, في جزء منه, إلى الشيخ ياسين الذي كان ضريحه قائما في مسجد أطلق اسمه عليه, ويقع
في جوار أطلال الدير. لكننا لا نعلم الكثير عن الشيخ, ولا عن تاريخ تشييد مسجده.
في أواخر القرن التاسع عشر, كانت منازل دير ياسين مبنية بالحجارة. وكانت القرية تتزود مياه
الشرب من نبعي ماء, يقع أحدهما في الجهة الشمالية من القرية, والثاني في جهتها الجنوبية. وقد
تجمهر معظم منازلها المتينة البنيان, والغليظة الحيطان, في بقعة صغيرة ذات أزقة ضيقة متعرجة,
تعرف ب( الحارة). وكان سكان دير ياسين جميعهم من المسلمين. في سنة 1906 تقريبا شيدت
الضاحية اليهودية في القدس, غفعت شاؤول, وهي تقع في أقصى الغرب, من طرف الوادي إلى
طرفه الآخر بدءا من دير ياسين. وتلتها بعد ذلك كل من مونيفيوري وبيت هكيرم ويفينوف. وكانت
الطريق الفرعية التي تربط دير ياسين بالقدس, وتلك التي تربطها بيافا, تمران عبر غفعت
شاؤول.
في إبان الحرب العالمية الأولى قام الأتراك بتحصين مرتفعات دير ياسين كجزء من نظام الدفاع
عن القدس. وفي 8 كانون الأول\ ديسمبر 1917, اقتحمت قوات يقودها الجنرال اللنبي هذه
التحصينات, في الهجوم الأخير الذي أسفر في اليوم التالي عن سقوط القدس في قبضة الحلفاء.
حتى العشرينات من هذا القرن كانت دير ياسين تعتمد في معيشتها إلى حد بعيد, على الزراعة
المشفوعة بتربية المواشي. لكن سرعان ما طرأ تبدل على أسس اقتصادها بسبب ازدهار البناء في
القدس في عهد الانتداب. إذا كانت المنطقة المحيطة بدير ياسين غنية بالحجر الكلسي, وهو مادة
البناء المفضلة في القدس, فراح سكان القرية منذ بداية عهد الانتداب يستثمرون مقالع واسعة
على امتداد الطريق الفرعية المؤدية إلى المدينة, وهذا ما طور صناعة قلع الحجارة وقطعها.وقد
ازدهرت هذه الصناعة حتى بلغ عدد كسارات الحجارة العاملة في أواخر الأربعينات أربعا. وشجعت
هذه الصناعة القرويين الميسورين على استثمار أموالهم في نقل الحجارة بينما أصبح آخرون
سائقي شاحنات في سنة 1935 ,أنشئت شركة باصات محلية, في مشروع مشترك مع قرية لفتا
المجاورة (قضاء القدس). ومع ازدهار دير ياسين انتشرت منازلها من ( الحارة) صعودا نحو قمة
التل الذي تقوم عليه, وشرقا نحو القدس.
في أوائل عهد الانتداب لم يكن لدير ياسين مدرسة خاصة بها, وإنما كان أبناءها يتلقون العلم في
مدرسة لفتا أو في مدرسة قالونيا (قضاء القدس). لكن في سنة 1943 أصبح في إمكان دير ياسين
أن تفتخر بمدرسة ابتدائية للبنين, وفي سنة 1946 بمدرسة أخرى للبنات, وقد بنيت المدرستان
من تبرعات سكان القرية. وكان على رأس مدرسة البنات مديرة مقيمة فيها, جاءت من القدس.
كما كان للقرية فرن, ونزلان, وناد اجتماعي (نادي النهضة), وصندوق توفير, وثلاثة دكاكين
وأربع آبار, ومسجد ثان على المرتفعات العليا مشرف على القرية وقد بناه محمود صلاح, أحد
سكان القرية الميسورين. في أواخر عهد الانتداب, كان كثيرون من سكان دير ياسين يعملون
خارج القرية بعضهم وجد عملا من سكان دير ياسين يعملون خارج القرية, بعضهم وجد عملا له
في معسكرات الجيش البريطاني المجاورة كخادم أو نجار أو مشرف على العمال, وبعضهم الآخر ا
ستخدم في مصالح الانتداب المدنية, ككاتب أو مدرس وفي تلك الحقبة, لم تتعد نسبة العاملين في
قطاع الزراعة 15 في المئة.
ارتفع عدد سكان دير ياسين من 428 نسمة في سنة 1931, إلى 750 نسمة في سنة 1948. كما
ارتفع عدد منازلها في الفترة نفسها من 91 منزلا إلى 144 منزلا. في عهد العثمانيين, بدأت
العلاقات بين القرية وجيرانها اليهود على نحو معقول ولا سيما في الحقبة الأولى حين كان اليهود
اليمنيون السفا راد, الناطقون بالعربية, يشكلون أكثرية السكان المجاورين. إلا إن هذه العلاقات ما
لبثت أن تدهورت مع نمو (الوطن القومي اليهودي) لتصل إلى أدنى دركا ته في أثناء ثورة 1936-
الكبرى. ثم عادت إلى الحسن في إبان أعوام الازدهار والعمالة الكاملة التي اتسمت بها الحرب
العالمية الثانية. وهكذا كانت دير ياسين, في سنة 1948, قرية مزدهرة متنامية ذات علاقة سلمية
نسبيا بجيرانها اليهود الذي كان بينها وبينهم حركة تجارة واسعة. وتضم كل من دير ياسين
وخربة عين التوت دلائل أثرية تشير إلى أنهما كانتا آهلتين سابقا, ومن هذه الدلائل حيطان وقناطر
وخزانات وقبور.
احتلال القرية
كانت دير ياسين مسرحا لأشهر مجازر الحرب وأشدها دموية. وعلى
الرغم من أن المجزرة نفذتها عصابتا الإرغون وشتيرن, فإن احتلال
القرية يدخل ضمن الإطار العام لعملية نحشون التي خططت
الهاغاناه لها (أنظر بيت نقوبا, قضاء القدس). وقد اشتركت في
الهجوم آنذاك وحدة من البلماح مزودة بمدافع هاون, وذلك بعد أن
تمكن سكان القرية بشق النفس من احتواء الهجوم المباغت الذي
شنته العصابتان المذكورتان. ويذكر كتاب( تاريخ الهاغاناه) أن قائد
الهاغاناه في القدس, دافيد شلتيئيل, اطلع على مخطط الإرغون
وشتيرن للهجوم دير ياسين وبلغ قائدي هاتين الجماعتين أن احتلال
القرية والاحتفاظ بها جزء من خطة الهاغاناه العامة لعملية نحشون,
مع العلم أن دير ياسين كانت وقعت مع الهاغاناه اتفاق عدم اعتداء.
وأضاف أنه لا يمانع في أن تضطلع الجماعتان بالعملية شرط أن تكونا
قادرتين على الاحتفاظ بالقرية. وحذرهما في حال عجزهما عن ذلك,
من تدمير القرية جزئيا, إذا إن من شأن ذلك أن يشجع (العدو) على
تحويلهما إلى قاعدة عسكرية. وقد أقر شلتيئيل لاحقا بأنه زود
الوحدات المهاجمة بناء طلبها في إبان الهجوم ذخائر للبنادق
ولرشاشات ستن كما قدم لها التغطية من مدفعية الهاون.
في تلك الآونة كتب مراسل صحيفة (نيورك تايمز) يقول: (دعم
عشرون رجلا من ميلشيا الهاغاناه التابعة للوكالة اليهودية خمسة
وخمسين رجلا من الإرغون, وخمسة وأربعين رجلا من شتيرن,
استولوا على القرية). وتفيد تقارير الهاغاناه أنه عند بزوغ فجر 9
نيسان\ أبريل1948 , شن مئة وعشرون رجلا (ثمانون من الإرغون,
وأربعون من شتيرن) هجوما على القرية. واستنادا إلى هذه الرواية
قتل أربعة من المهاجمين. وجاء في (تاريخ الهاغاناه): ( ونفذ
المنشقون مذبحة في القرية من دون تمييز بين الرجال والنساء
والأطفال والشيوخ. وأنهوا عملهم بأن حملوا قسما من (الأسرى)
الذين وقعوا في أيديهم على سيارات وطافوا بهم في شوارع
القدس في (موكب نصر), وسط هتافات الجماهير اليهودية. وبعد
ذلك أعيد هؤلاء (الأسرى) إلى القرية وقتلوا. ووصل عدد الضحايا من
الرجال والنساء والأطفال إلى 245 شخصا). وأفاد تقرير لصحيفة
(نيورك تايمز) أن نصف الضحايا كان من النساء والأطفال, بينما أخذت
70 امرأة أخرى مع أطفالهن إلى خارج القرية, وسلمن لاحقا إلى
الجيش البريطاني في القدس.
في إثر المجزرة, رافق رجال الإرغون وشتيرن جماعة من مراسلي
الصحف الأميركين, بينهم مراسل لصحيفة (نيورك تايمز) إلى أحد
منازل مستعمرة غفعت شاؤول القريبة, وراح منفذ المجزرة (يطنبون
في تفصيل) العملية, وهم يحتسون الشاي ويتناولون الكعك, قالوا
أنهم قاموا بنسف عشرة منازل في القرية, وأن المغيرين فجروا
أبواب بعض المنازل وألقوا قنابل يدوية داخل منازل أخرى. وأعلن
ناطق باسمهم أن القرية صارت (تحت اسم سيطرتهم) خلال
ساعتين, مضيفا أنه كان يتوقع أن تتسلم الهاغاناه القرية. ومما
يناقض كلام هذا الناطق أنه, بعد خمس ساعات من بدء الهجوم,
طلبت القوات التابعة للإرغون وشتيرن مساندة الهاغاناه. وكانت
الهاغاناه احتلت دير ياسين غداة المجزرة, أي يوم 10 نيسان\ أبريل,
لكن الصحيفة قالت لاحقا إنهم احتلوا القرية(رسميا) يوم 11 نيسان \
أبريل. وجاء في تصريح أذاعته الهاغاناه: ( سنحافظ على القبور
والممتلكات الباقية... وسنعيدها إلى أصحابها في الوقت الملائم.)
وكان ورد في اليوم السابق على لسان أحد أعضاء الهيئة العربية
العليا أنه ناشد الشرطة والجيش البريطانيين التوسط لإعادة جثث
الضحايا ودفنها لكن من دون جدوى.
عقب ذلك قامت الهيئات الصهيونية الكبرى, كالهاغاناه والوكالة
اليهودية ورئاسة الحاخامين, بإدانة الجزرة. وسرعان ما غدت دير
ياسين مضرب مثل ونموذجا للفظا عات التي ارتكبت في سنة 1948
وأصبح تأثير المجزرة في هجرة الفلسطينيين, في تلك السنة,
موضوع سجال كبير في الأوساط الإسرائيلية والفلسطينية. وتكثر
المؤلفات عن مجزرة دير ياسين, سواء بالعبرية أو الإنكليزية أو
العبربية. وتعمل مؤسسة الدراسات الفلسطينية, حاليا, على إعداد
دراسة خاصة تتعلق بهذا الموضوع.
القرية اليوم
لا تزال منازل قائمة معظمها على التل وقد ضمت الى مشفى اسرائيلي للامراض العقلية
أنشئ في موقع القرية .. وتستعمل بعض المنازل التي تقع خارج حدود اراضي المشفى
لأغراض سكنية او تجارية او كمستودعات
وثمة خارج السياج اشجار خروب ولوز .. وبقايا جزوع اشجار الزيتون
وتحف ابار عديدة بالطرف الجنوبي للقرية
اما مقبرة القرية القديمة والواقعة شرقي الموقع فمهملة وتكتسحها أنقاض الطريق الدائري
الذي شق حول تل القرية
وما زالت شجرة سرو واحدة باسقة قائمة وسط المقبرة حتى اليوم
ذكراك دير ياسين تهز جوارحي
لبيك ولبى نداك فؤادي
دير ياسين صبرا اذا ما عدناك يوما
غدا ستعودي على ايدي احفادي