عائد للمعتقل
عشرون عاماً لم تطل شمس على أجسادنا. لم تمر حتى مرور عابر سبيل. أيقنت أنا لن نرى شمساً سترتسم أو نسمة ستبتسم. فنحن ننام في الظلام. نستيقظ في الظلام. من الظلام، في الظلام، إلى الظلام. ننام على العذاب. نقوم على صوت سياط تأكل أجساداً وعظاما ...
قدرنا أن نحيا حياتنا هنا. أن نعذب، أن نجرح، وان نقتل ذبحا، نذوق كل يوم طعما جديدا للعذاب. لا بد من كف تنهال على وجوهنا ضرباً كل يوم. لابد من تجريحنا بألسنتهم في كل يوم. لابد من موت يطل على السجون كل يوم. لكن لا نزال جميعا ًيداً واحدة مع الله لذا فنحن لا نهاب أحدا ولا نلين أبدا رغم الوجع الألم .
فتح الباب ونودي باسمي بصوت عال غليظ فظ ياسر اغا) تمتمت قائلا .... جاء دوري.. حمدا لله..... وبدات اصافح الجميع بحرارة ... الى ان سمعت صديقي يقول : اوصل سلامنا لمن سبقنا ..... ثم نهضت بهدوء وسألتهم بنغمة هادئة قاصدا استفزازهم :. ماذا تريدون مني؟..
رد علي بغلظة: هل أنت ياسر اغا؟..
أجبته مستفزا: لحظة أفكر... ربما كنت خياله .....
وإذ بكفه تنهال على وجهي ضرباً ثم أمسك بشعري قائلا: أيها الحقير لا تكن أحمق وأجب بنعم أولا فقط ، ولا تفكر فليس لك هنا تفكير.....
فسكت ولم اجب فثار غضبه واراد ضربي.بسوطه..... وإذ بإخواني المعتقلين يصرخون:. أجل.. أجل هو ياسر اغا......
تقدم نحوهم كأنه ثور هائج ... ثم صرخ فيهم قائلا: لماذا أجبتم عنه ؟أليس له لسان ؟
ثم نادى للعسكري...... وصرخ فيه مخوفا....
احضر السوط وقضيب الحديد مع الفحم وأحضر الحبل وأحضر سلك الكهرباء وأحضر سكينا وأحضر المختصين ليعالجوا هؤلاء المرضى .....
قصد بكلامه هذا ... تعذيبهم ... صرخت فيه : ماذا تريد يا هذا أنا هو ياسر اغا ألا تريد ياسر اغا دعهم وشأنهم وخذني أنا..... قلت ذلك لأني رأيت عدم الحاجة في الزيادة من عذاب اخواني ولن يقدم دفاعهم عني شيئا ولن يؤخر ...... فأنا ماض للإعدام ....ماض... لا مجال....
رد المأمور ....... مبتسما ابتسامة واسعة تكاد تتمزق منها شفتاه ....مستفزا: فهمت إذا.. جيد جدا..ً أيها العسكر خذوه وأحضروه إلى غرفتي.... ولكن بهدوء و احترام.
ثم خرج و أتوا ليأخذوني
أصابتني الدهشة من طريقة كلامه مع العسكر في شأني.، بينما أدرك الجميع أنه الإفراج بإذن الله، فرح الجميع وبدؤوا يباركون لي ويكبرون ويهللون ....
قال أحدهم: إذا خرجت فابحث عن أهلي وأخبرهم أني حي.
و أخر يقول: وأنا أيضاً أخبر أهلي أني حي.
صرخ أحد الاخوة: لا تقل للأهل أني أصبحت معاقاً، فقط قل لهم أني بخير وأني حي أرزق .
صرخ أخر: اذا سألك أهل فلان عن ابنهم فازعم انك لا تعرف عنه شيئا فقد أصبح بالأمس لا عقل له جراء التعذيب.
خرجت مع الشرطة وكل منهم يقول لي قل لأهلي ......لا تقل لأهلي ولا زلت أسمع تهليلاً وتكبيراً حتى دخلت غرفة المأمور وأغلق الباب خلفي وإذ به يقول لي :
تفضل اجلس على هذا الكرسي
تقدمت وجلست دون أن أظهر قلقي جلس على الكرسي الذي أمامي ثم أشعل سيجارة وأعطاني
شكراً لا أريد
كما ترغب لقد تبين لنا في التحقيقات انك بريء لذا أفرجنا عنك
تلكأت قليلاً ثم تسألت أ...أ..أنا
وماذا في ذلك أجل أنت أم انك لا تريد الخروج
بلى ..بلىأريد
فهلا شكرتني إذن ؟
سكت برهة ثم هممت أن أصرخ في وجهه (أبعد عشرين سنة تذكرتم أني بريء وتريدني أن أشكرك احمد الله أني لم أقتلك) لكنني تمالكت أعصابي ثم أجبته بلى..( انتظر كلمة الشكر قليلاً وعندما تيقن أنها لن تلفظ ، قال بقرف )
اذهب وأرتد ملابس جديدة حتى تظهر أمام أهلك حسن المنظر .
نهضت وخرجت من غرفته فاصطحبني العسكري إلى غرفة الملابس وأعطاني بدلة
أرتديتها ثم خرجت فأوصلاني إلى حيث المكان الذي امسكوني به لا زلت أذكره جيداً (ربما هو المكان الوحيد الذي لم يمح من ذاكرتي) تركوني في الظلمة أمشي أحاول تذكر طريق بيتي وفي طريقي كنت أتخيل كيف سيكون لقائي مع أمي وأبي وأخواني وبالتأكيد أصبح لكل واحد من أخواني جيشاً مشاكساً فوضوياً لابد أن منزلنا في الصباح كما يقولون (حمام مقطوع ماؤه) الحمد لله تذكرت المنزل هاهو ذاك أنا أراه جيداً لكن يبدو أنهم بنوا طابقا ثاني لأنهم كثروا
اقتربت من باب المنزل وهممت أن أدق الباب لكن تذكرت سيقولون: من ثقيل الدم هذا الذي يطرق الباب ليلاً وفي هذا الوقت والكل نيام
هل أطرق ؟ لا أطرق ؟ بل سأطرق أجل سأطرق لكن بدا لي أني سمعت أصواتاً في الغرفة الداخلية وهذا ما شجعني أكثر على طرق الباب
طرقت الباب ثلاث مرات حتى سمعت أقداما تقترب إنها أقدام أختي( ولاء)
(أنا فداك أختي أسمعيني صوتك ولو بكلمة (من بالباب))وإذا بها أصبحت خلف الباب تقول:.
من الطارق؟. (حينها عمدت أن أثقل دمي) فأنا أعلم أنها عصبية المزاج متسرعة، أتذكر أنها تضربني إذا ثقل دمي فهل ستضربني هذه المرة أيضاً رققت صوتي قائلا (ولاء) افتحي أنا ..أنا (نسيت اختراع اسم أنثى) فوجدتها فتحت الباب بلهفة وقالت وكأن قلبها دق خوفاً رُبا ..رُبا تفضلي ..ربا ما بك تفضلي ,فدخلت وكنت أصلع لا لحية لي ولا شارب ،
فانتفضت وقالت صارخة من أنت اخرج أيها الحقير يا أبا همام هناك لص الحقوني هناك لص فحاولت سد فمها كي لا يستيقظ الجيران فعضتني بكفي وأكملت تصرخ فتجمع الجميع حولي حتى كادوا يضيقون الخناق عليّّّّ فالجميع لم يعرفوني .!!حتى سمعت صوت طفلة صغيرة تقول:.
يا إلهي أحضرت لنا رجلا أصلع يشبه خالو ياسر الذي في الصورة... توقف الجميع وهدأ البيت لحظة ثم ما لبثت أن هجمت ولاء تضمني تقبلني تصرخ حبيبي ياسر ..ياسر ..وانفجرت باكية
دخلت غرفة الجلوس جلسوا جميعاً بقربي جلست الطفلة التي عرفتني ابنة أختي ولاء اسمها حنان انتظرت قليلا علّ أبي وأمي يأتيان لم يأتيا نظرت إلى أخي الأكبر قاسم وسألته
أين أمي لم أرها هل هي نائمة ؟إن كانت نائمة لا توقظوها فستراني غداً
سكت الجميع ولم يجب أحد سألتهم باستغراب ,ما بكم أين أمي ؟
أجابني ياسر ابن أخي قاسم والذي اسماه على اسمي حين ظنوا أني لقيت حتفي في السجن
يا عمي جدتي ماتت منذ خمس سنين
أحسست حينها أن جزءا من جسدي إن لم يكن كله قد انهار صرخت
ماذا ماتت منذ خمس سنوات؟!
لم أتمالك نفسي فانفجرت باكياً وكانت أول مرة ابكي بها أمام أحد.. انفجروا باكين هم أيضا لم يستطيعوا تمالك أعصابهم فبكوا وحين هدأت قليلاً وسكت عن البكاء سألتهم وصوتي يحمل نغمة بكاء لا تخفى: و أين أبي لا تقولوا إنه مات أرجوكم .
أجاب حسن : لا.. لا أبي لم يمت لكنه ذهب إلى البلد المجاور قال:. أنا هنا لا أستطيع العيش بدون ياسر ثم إن حكومتنا كانت تضايقه كثيراً حتى شد الرحال .
متى حدث ذلك؟
منذ ست سنوات تقريباً ولم نسمع عنه شيئاً منذ ذلك الوقت رغم محاولاتنا الشديدة للاتصال به .
لا إله إلاّ الله، ما الذي حدث في العشرين سنة الماضية يا إلهي ؟!
ووضعت رأسي بين كفي باكيا....ً أحسست بكفي حنان الصغيرتين تمسح على رأسي قائلة :
خالو ياسر أرجوك لا تبك ، أنت رجل والرجل لا يبكي .
هدأت قليلاً.. وترجونني أن أنام.. وأنسى.. كي أرتاح ؟
يتبـــــــــــع