ندوة نون هي صيغة قديمة جديدة، حيث يجتمع عدد من المهتمين وأهل الاختصاص لتدارس مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة. في كل مرّة يكون، بفضل الله، هناك جديد، وفي كل مرّة تتجلى أهمية هذه الصيغة في تدارس القرآن الكريم، وفي كل مرة ينفض المجلس ولدى كل واحد من أعضاء الندوة شعور بالرضى، وأحياناً بالنشوة، فمتعة العلم والتفكير لا تساويها متعة، فكيف إذا كان العلم والتفكير يتعلقان بكتاب الله رب العالمين؟ .
يكون النقاش تفصيلياً، وكثيراً ما يقود هذا النقاش إلى وجوه جديدة في تفسير القرآن الكريم، ويغلب أن تتحصّل أفهام جديدة ترتكز إلى اللغة العربيّة، وما صحّ من الأحاديث، وتفسير القرآن بالقرآن، وتنطلق من فهم السلف والخلف الصالح من المفسرين. ونحن هنا عندما نستعرض بعض المسائل إنّما نهدف إلى التعريف بمنهجيّة الندوة، كما ونهدف إلى إثارة الدافعية لدى القارئ لتحقيق التواصل مع القرآن الكريم من أجل فهم أفضل لكتاب الله الحكيم.
يذهب جماهير المفسرين إلى أنّ يحيى، عليه السلام، قد قُتل. وهم يستندون في ذلك إلى القصة التي وردت في الأناجيل. والعجيب أنّ ذلك قد أصبح عند الكثير من المفسّرين من الأمور المسلّمة التي لا تحتمل النقاش ، على الرُّغم من أنه لم يصح في ذلك حديث. بل إنّ القول بمقتل يحيى، عليه السلام، يناقض ظاهر القرآن الكريم. وإليك بيان ذلك:
أولاً: جاء في الآية 15 من سورة مريم: " وسلامٌ عليهِ يوم وُلِدَ، ويوم يموتُ، ويوم يُبعثُ حياً "، فالآية القرآنية تُصرِّح بأنّ يحيى، عليه السلام، سيموت، وقد فرّق القرآن بين القتل والموت. ويظهر ذلك جلياً في قوله تعالى: " ولئن قُتلتم في سبيل الله أو مُتّم.." (آل عمران: 157)، وفي قوله تعالى: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبلهِ الرسل، أفإن ماتَ أو قُتل..." ( آل عمران:144)، وفي قوله تعالى: " ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً..." ( آل عمران:169). بل إنّ الآية الأخيرة تنهى عن وصف من قُتِل في سبيل الله بأنّه ميّت. فكيف يصف القرآن الكريم يحيى، عليه السلام، بأنه ميّت إذا كان قد قتل في سبيل الله؟!
ثانيـاً: في قوله تعالى: " وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِد، ويومَ يموتُ..."، دليل أخر على أنه، عليه السلام، لم يُقتل، لأنّ القتل يتناقض مع السّلام الذي يحلُّ عليه من الله. فكيف يقول الله تعالى إنّ السلام عليه يوم يموت، ثم نقول نحن إنّه قد قتل؟!
ثالثـاً: اشتهر عند أهل التفسير أنّ زكريا ويحيى، عليهما السلام، قد قُتلا معاً، أو في وقت متقارب. وهذا القول يتناقض مع ظاهر قوله تعالى من سورة مريم: " وإني خِفتُ المواليَ من ورائي وكانت امرأتي عاقراً، فَهَبْ لي من لدنكَ وليّاً يرثني ويرثُ من آلِ يعقوب..."، إذ كيف يكون يحيى، عليه السلام، وارِثاً لزكريّا وقد قتلا معاً، أو في وقتين متقاربين، والله تعالى يقول في سورة الأنبياء: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى..." ؟! نعم، لقد طلب زكريّا، عليه السلام، في دعائه أن يهبه الله وليّاً يرثهُ ويرث من آل يعقوب فاستجيب له في يحيى، عليه السلام. وهذا يُشعر بطول لبث يحيى بعد أبيه، عليهما السلام.
رابعـاً: " يا زكريا إنّا نُبشّرُك بغلامٍ اسمهُ يحيى لم نجعلْ لهُ مِن قَبْلُ سَمِيّا "، والسّميُّ هنا إمّا أن يكون مثيلاً في الاسم، أو مثيلاً في الصفة. فإذا كان السَّميّ هو المماثل في الاسم، فما ميزة أن يتفرد إنسان باسمٍ ما؟! وإذا كان السّميّ هو المماثل في صفة أو أكثر، فما هي هذه الصّفة، أو الصفات، التي تميَّز بها يحيى، عليه السلام، فكان هو أول من يتصف بها؟! وفي محاولة للإجابة عن هذا التساؤل نقول:
يستخدم الناس الأسماء لتمييز الأفراد بعضهم عن بعض، ولا يتم اختيار الأسماء عشوائياً، بل يعمد أغلب الناس إلى اختيار أسماء لها دلالات مُحببة لديهم، ومن ذلك أن يكون الاسم دالاً على صفة إيجابية. وعلى الرُّغم من ذلك فإنّ هناك الكثير من الأسماء التي لا تشير إلى صفات. أمّا أسماء الخالق سبحانه، والتي سمّى بها نفسه، فإنّها أيضاً صفات، فكل اسم منها يدل على صفة؛ كسميع، وعليم، وحكيم...، ولا مجال هنا للفصل بين الاسم والصفة.
عندما يُسمّي الله نبياً من الأنبياء فعلينا أن نتوقّع أن يدل هذا الاسم على صفة. فعلى سبيل المثال، سمى الله تعالى عيسى، عليه السلام، المسيح عيسى ابن مريم، ولا بد لذلك من سر. وسمّى سبحانه الرسول، عليه السلام، محمداً وأحمد. وسمى يحيى، عليه السلام، بهذا الاسم قبل أن يولد ليدل على صفة بارزة فيه، كيف لا، والله تعالى يقول:" لم نجعل له من قبل سميّا"، واضح أنّ الآية تشير إلى تفرّده، عليه السلام، بصفة لم يسبقه إليها أحد من البشر، فما هي هذه الصفة، ولماذا أشار إليها القرآن الكريم؟
قد تكون هذه الصفة متعلقة بما ورد من أنّ يحيى، عليه السلام، لم يهم بمعصية قط. ولكن هذه الصفة لا تظهر في الاسم يحيى. والذي نراه أنّ الصفة التي تميّز بها، عليه السلام، ظاهرة في هذا الاسم الذي نزل به الوحي؛ فعندما سمّاه الله تعالى يحيى نتوقّع أن تتضمّن هذه التسمية الإشارة إلى السّر الذي يجعله، عليه السّلام، يتميّز عن غيره ممن سبقه. وإذا كان اسم كإبراهيم أو إسماعيل أو إلياس واضح العُجمة، فإن اسم يحيى لا يستشكل أنّه عربي، وعلى وجه الخصوص كصفة، وإن ذهب البعض إلى غير ذلك. وعليه فإنّ الصّفة التي تَميّز بها يحيى، عليه السلام، عن غيره ممن سبقه أنه يحيا وتطول به الحياة، أو أنّه يقوم بعد الموت ويحيا. ومعلوم أنّه لم يُنقل أنّه طال به العمر، أمّا قيامته فقد جاء في الإنجيل، الذي هو في أيدي النصارى اليوم، أنّ هيرودس شكّ أنّ يحيى، الذي يٌسمّى في الأناجيل يوحنّا المعمدان، قد قام من الأموات: " هذا هو يوحنا المعمدان ، وقد قام من بين الأموات...". وهذا الكلام لا يُركن إليه، ولكن ورودهُ يثير التفكير. وقد ورد في الأناجيل أيضاً عبارة عجيبة تُنسب إلى المسيح: " وإن شئتم أن تُصدّقوا، فإن يوحنّا هذا هو إيليا الذي كان رجوعه منتظراً، ومن له أذنان فليسمع! ". إلا أنه معلوم أنّ العُزير، الذي سبق يحيى عليه السلام بقرون، قد بُعث حيّاً، ومن هنا لا يتميّز يحيى، عليه السلام، عمّن سبقه بالرجوع إلى الحياة من بعد موت. وقد يُشكِّك البعض في صحة القول بأنّ الذي مر على قرية، وورد ذكرهُ في الآية 259 من سورة البقرة، هو العزير، وأنّه كان قبل زمن يحيى عليه السلام بقرون، ولكن لا مجال للشك في قيامة جماعة من بني إسرائيل في عهد موسىُ عليه السلام: " ثمّ بعثناكم من بعدِ موتكم لعلكم تشكرون " (البقرة: 56). وعليه لا يكون المقصود باسم يحيى أنّه الذي يقوم بعد الموت، لأنّ هناك من البشر من سبق له أنْ بُعث من بعد الموت، وهذا لا يجعل يحيى، عليه السلام، متميّزاً على غيره كما هو ظاهر الآية الكريمة: "لم نجعل له من قبل سميّا". فما معنى يحيى إذن؟!