متواضع ، خفيض الصوت ، يسلم عليك ، فتشعر بكتلة لهب تصافحك ، وليس ذلك إلا بسبب حيويته وحركيته النشطة ، هو انسان قنوع مؤمن ، من الصعب عليك أن تنسى ابتسامته ، وهي تخط على منحنى عجيباً على وجهه المنير ، المزين بلحية مشذبة نظيفة ، بجسم رشيق يليق بأناس يُسمّون في قاموسنا "المجاهدون" ، ثم تصفعك الذاكرة لتفرض عليك استرجاع صور القادة والشهداء القساميين في الضفة الغربية ، الذين أرّقوا العدو الصهيوني بسلاح بسيط ذخيرته الإيمان والعقيدة . ومن أول نظرة تستنتج أن هذه المواصفات ليست لأهل الدنيا ، وبأن الرجل يُحضر لأن تكون الآخرة خطوته التالية .
عندما يتكلم "الكرميّ" يفرض عليك أن تصمت ، وتراقب شفتيه وهما يتحركان بسلاسة ويسر وبساطة ، وليس لك إلا أن تنظم الأفكار ، وتربطها ببعض لتكتشف سراً وُفق إليه هذا الرجل ، عندما يتحدث في السياسة يحلل كما القادة ، وعندما يتكلم في فن الدعوة والحركة ، فيتحدث بلسان الراشد والتلمساني ومصطفى مشهور . هو نشأت الكرمي ، الذي نشأ في حلق القرآن وتربى على يد الرجال ، فتكونت شخصيته وصُقلت بصحبة القادة السياسيين منهم والعسكريين ، فأخذ عن كل رجل أحسن ما فيه ، أخذ عن عماد عقل السرعة في التنفيذ والسرية ، وأخذ عن المهندس يحيى عياش الذكاء والفطنة ، وأخذ عن الشيخ جمال منصور الجرأة والصوت الهادر .
شهيدنا القائد عُرف بصوته الندي ، وهو لطالما غنى للشهداء والاستشهاديين ولكتائب عز الدين ، فهو انضم منذ نعومه أظفاره إلى فرقة الشهداء - طولكرم ، وكان على علاقة وطيدة بشقيق الروح الاستشهادي عبد الباسط عودة رحمه الله . مجموع اعتقالاته 10 سنوات في سجون العدو الصهيوني ، آخرها حدثني عنها بقوله : " في 2004م تم اقتحام المنزل الذي اقطنه في الخليل ، وقام اليهود بإطلاق الرصاص علي ، وتم نقلي إلى سجن الرملة ، حيث أصبت في رجلي وفي منطقة المثانة ، لكن الله سلم " تصريح مقتضب ، لكنه يحمل في طياته الكثير ، الكرميّ الذي أعجز المخابرات الصهيونية ، وأتوا بإحدى قريباته للضغط عليه للاعتراف ! ، لكن لا وألف لا !، فالاعتراف حرام في عقل الكرميّ .
اعتقل في ذكرى انطلاقة حركة حماس عام 2009م ، وقتها قال له المحقق الصهيوني : " يا نشأت ، عندما نشعر بشيء يحدث تحت الارض ، فسنأتي بك إلى السجن" ، فرد عليه بابتسامة استهزاء وبنظرة أصابت كبد المحقق الذي انصرف من الغرفة ولم يعد .
أعجز المحققين ، وأعجز العيون والجواسيس وأزلام السلطة ، الذي يراهم "عملاء" للعدو ، ويرى أنهم تمازجوا مع "الصهاينة" في غاياتهم ، وأصبحت مهمتهم الوحيدة - أي الأجهزة الأمنية - :" حراسة الاقطاعيات الصهيونية في أرض الاسراء" .
آخر جولاته مع المحققين ، كانت قبل عدة أشهر ، عندما قُدّم له "شيك" مفتوح للسفر إلى الخارج ، ليكمل تعليمه ، "ويعيش حياته" بعيداً عن "الضفة" وجبالها ، لكنه رفض هذا العرض ، وقال أنه مستعد أن يموت هنا على أن يفرط بعهدة القسام التي حملها المهندس نشأت الكرمي .
نشأت الكرمي رزق قبل عدة أشهر ببنت غاية في الجمال ، وكان يعد العدة لاستقبالها ، سألته : " وماذا تنوي أن تسميها ؟" ، قال : " الحور العين" ، فضحكت ضحكة ، ثم قلت : " الحور العين ؟!" ، قال : " نعم ، ومن أحب غيرها ؟"
ويوم ولادة ابنته الوحيدة "الحور العين" تلقيت منه رسالة نصية تزف لي هذا الخبر الجميل ، لَكم كان فرحاً بهذا الخبر ، ولهو الآن أشد فرحاً بلقيا الحور العين عياناً في جنات ونهر عند مليك مقتدر .
رحمك الله ايها الصافي النقي ...
رحمك الله ايها الحافظ لكتاب الله ...
طبت حياً وطبت ميتاً ...
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
__________________