جميلة تلك اللحظات, التي بها تشعر بأنك إنسان له كيانه في المجتمع
وقد تصل ذروة الإحساس بنعمة النجاح والفرحة به ,عندما ترى سعادةأنت سببا فيها , على وجه طفل أو طفلة.
كانت تلك حكاية رائعة عشت أحداثها , أياما متواصلة استمرت مدة سنتين , من أجمل سنوات عمري, التي لا يمكن أن تغيب عن مخيلتي , بها أواسي نفسي عندما يأتيني اليأس زائرا , أو ينزوي الأمل من قلبي جانبا ويبتعد عن الدرب الذي أسير .
بدأت حكايتي عندما عينت مدرسة (معلمة) في إحدى المدن القريبة من منطقة سكناي , حيث ألقيت علي مسئولية تدريس موضوع أساسي بالإضافة إلى تربية صف رابع ابتدائي , وكان في بداية مشواري بمثابة تحدي بالنسبة لي, تحمل مسئولية لخريجة جديدة .
الحمد لله قبلت التحدي وفعلا أثبت لنفسي قبل أن أثبت لغيري أني على قدر هذه المسئولية ووصلت إلى مستوى المعلمة المحبوبة , في المدرسة وقد دخلت قلوب الطلاب .
كانت ريم طالبة في الصف الرابع , تجلس يوميا في الممر بين الصفوف الرابعة , كنت أمر عنها في طريقي لصفي وألقي عليها التحية والسؤال عن الحال , كانت تبتسم ابتسامه عريضة فيها فيض من الحزن , يخترق إحساسي وكل مشاعري تتغلغل حين كنت أراها .
أصبحت أينما تراني , ترمقني بنظراتها التي يملؤها الألم والرجاء , مما دفعني أن أسأل مربية صفها عن سبب جلوسها في الممر لوحدها , وقد فهمت أن السبب هو كثرة حركتها وتشويشها وعدم انضباطها في الصف الذي يعيق من العملية التعليمية , لذا كان الحل إبعادها عن الصف .
حينها خطرت ببالي دون تفكير , فكرة تبني ريم في صفي والاهتمام بها واحتوائها بين طلاب صفي , الذين كان عددهم 35 وهي سوف تكون رقم 36 .
تقدمت بطلب خطي لإدارة المدرسة لاحتضانها في صفي , وقد رحبت الإدارة بالفكرة لأنها كانت تصلها شكاوي كثيرة عن نفس الطالبة , وقد كان في هذه الفكرة شيء من الأمل أن يتغير الوضع .
أول خطوة كانت بعد موافقة الإدارة , أن آخذ موافقة الطالبة نفسها التي بدت وكأنها تنتظر هذا الاقتراح , وتبسمت فرحة وقالت لي : " أنا أحبك من زمان ومن زمان حابة أكون بصفك وتعلميني "
كم أسعدتني هذه الكلمات من طفلة بريئة تبدو ملامح الحزن على وجهها وصورة الكآبة مطبوعة على عينيها , كأن وراءها قصة أعمق من مجرد تشويشها في صفها , وقلت في قرارة نفسي لا بد من الاستفسار أكثر عن وضعها .
بعد أن رحبت بها في صفي أمام زملائها الجدد , الأمر الذي زاد من ثقتها بنفسها وشجعها , كذلك طلبت منهم الترحيب بها واعتبارها زميلة دائمة التواجد , في صفنا لها ما لنا جميعا في هذا الصف ويجب أن نعاملها أحسن وأفضل معاملة .
رحب الطلاب بها فعلا , إلى درجة أنها شعرت بينهم بالأمان الذي كان ينقصها من قبل , تجلس بينهم يشركونها بالفعاليات مهما كان مستواها التعليمي لا بد أن نشعرها بأنها فرد في هذا الصف له وجوده وله اعتباره , زيادة على ذلك كنت أقوم بالتحضير لها ما يناسب مستواها ألتحصيلي , كي لا تشعر بالإحباط إن لم تنجح في تنفيذ مهمة .
بعد الاستفسار عن خلفيتها الاجتماعية لأنه راودني الشك أن هناك أمرا ما وقصة غريبة وراء هذه الطفلة , اتضح أنها بنت لأبوين منفصلين كل منهم تزوج وعاش حياته الجديدة , بينما هي تعيش مع جدتها لوالدتها في جو من العنف تتعرض له من قبل أفراد في العائلة .
هنا زاد اهتمامي بريم الطالبة البريئة التي لا ذنب لها بما يدور حولها , حيث كانت تظهر على وجهها علامات الضرب بالألوان وكانت
تخفي هذا , خوفا يغمر وجهها فتحني رأسها كي لا تظهر علامات الذل بقدر ما تظهر علامات الضرب .
بعد أن قمت بطلب التعاون من معلمات الصف معي في حسن المعاملة مع ريم , والحمد لله كان تجاوبا فعالا وتعاونا ايجابيا من قبلهن , وأنا
بقدر طاقتي وقتها , استدعيت جدتها التي تربيها وترعاها , نصحتها بأن تهتم بها أكثر , وطلبت منها التعاون معي كي نغير وضع ريم للأفضل , حاولت أن أعوضها حنانا افتقدته وتبحث عنه في عيوني وتبحث عنه بين كلماتي , أعطيتها من وقتي كثيرا , حيث كنت أجلس معها في وقت فراغي أربت على كتفيهاوألامس شعرها , أصغي لها كثيراأعطيها اهتماما طالما بحثت عنه , كنت حينها أشعر بالفرحة في قلبها قبل أن أراها على وجهها الجميل .
الحمد لله , ريم تغيرت إلى الأفضل من ناحية اجتماعية وسلوكية رغم أن تقدمها من ناحية تعليمية كان جدا ضئيل , لكن يكفيني أنها وقتها بدأت تشعر بكيانها , وبدأت تظهر على وجهها بشائر فرحة عندما تراني كأنها ترى الأمل قادما إليها فتسعد .
كان هذا بالنسبة لي تحدي في الوقت الذي لم تكن أي معلمة "تطيق " وجود ريم في الصف أصبحت ريم : جميلة , نظيفة , مرتبة , منضبطة , تهتم بما تلقيه المعلمات على عاتقها من مهام بكل هدوء .
هذه هي قصة ريم التي تغيرت عندما لاقت رعاية واهتمام من معلماتها , وجدت الحنان والرعاية , وجدت الأمان الذي كانت تفتقده , جعلها تتحول من طالبة "مشاغبة " إلى طالبة "منضبطة"
الحمد لله