بيت لحم
ليلة الميلاد، صوت الريح في نايات التاريخ، أم تحمل فرح الرعاة بولادة نبي السلام والمحبة، وبيت لحم تستعيد الآن كرومها وأبارها وصرخة المسيح فوق الصليب عطشا يطلب الماء.
مدينة كانت دائما تستفيق من الخراب والحروب والتدمير، تبني مذودها وتضيء نجمتها بسبعة ألوان لأنها مدينة مسكونة، وقطعة طبيعية من الأرض، تطل من أعلى الجبل على بحرين، تعّمد المستقبل بالريحان والآيات وسحر الحكاية.
بيت لحم في ليلة ميلادها تصير الرواية، تكتب سيرة آلامها منذ مجزرة الأطفال على يد الملك (هيرودوس) حتى حصار الكنيسة أربعين يوما على يد الجنرال الإسرائيلي شارون، ولم تصل الى النهاية.
وما بين الروايتين: دم في الشوارع، صراخ على البلاط المقدس، غبار في السماء، نوافذ مفتوحة على الليل وجنازير الدبابات، قذائف تطلق على العذراء والراكعين في الصلاة.
لم يترك محاصرو الكنيسة بعد ترحيلهم الى خارج الوطن سوى الشهداء والجوع وأوراق الليمون وعصا الراعي، شهودا على سحابة تعود بالآيات والمعجزات.
في أول الميلاد ينهمر الحليب في المغارة ابيض ابيض، المذود هو سيد المكان ماضيا وحاضرا ومستقبلا، فتمتلئ بيت لحم بما ينقصها من الشهوة الى الحياة.
ومن شارع النجمة الى شارع المهد، يحمل المعذبون في الأرض براهينهم ومطالع هوياتهم وأغانيهم، أمامهم شجرة الميلاد تضاء، وخلفهم عشرون مستوطنة وأبراج وجدران لا تقدر أن تحجب صوت الأجراس.
وفي كل حارة سر دائم وطريق معلوم، والحب دائما في بيت لحم هو المفاجأة والهدية، لا احد يخطئ الأسماء، وما بعد الماء تأتي الروح القدس تحلق على شبابيك السجون، توزع الخبز والنبيذ على الحالمين بالحرية.
بيت لحم تتحلى باسمها، فهي الطاهرة المصطفاة في الكون، المغسولة بالحنطة والعسل الأحمر، ابعد من محاولات يائسة لاستبدال المكان، وابعد من خرافة مسلحة تراهن على النسيان وغياب الدليل.
في هذه البلد التي تشبه الحصن، الواقفة فوق بحر، المزروعة بالصوامع والزيتون، المنتقاة برعاية إلهية، ينضج فيها التين ويكبر فيها الأولاد على رائحة الميرمية، يتفتح فيها الميلاد كليلة العرس بزفاف إنساني يغلق أسطورة الموت ويطلق فيها وعد المطر.
كل من زار بيت لحم أحبها، فهي ارض الأنبياء، والملوك والرحالة، وكل من وطئها سمع فيها استغاثة أنثوية قادمة من الكنيسة، تنام على عشب يابس، تنتظر الغمام ورحيل الغرباء.
وكل من احتل بيت لحم خرج منها مدحورا، لم يسيطر على سيادتها، فهي سيدة البطولات المشتهاة تحت القباب ودوالي العنب، التاريخ فيها والنجمة الفضية وقارع الأجراس وأشجار الرمان والبرقوق صارت الهوية.
بيت لحم تتحلى باسمها، بيوتها العتيقة، حاراتها القديمة، مفاتيح أبوابها، أروقتها المرصعة بالدلالات والصور، ولا زالت كاليسوع تختزن في جسدها ثمن رسالته، وتحمل على جبينها آلام دعوته، تقترب من القدس بعينين مفتوحتين على الصلاة.
بيت لحم الآن تتحلى باسمها، هنا ولدت الحياة منذ ألفي عام، وهنا نشيد الرعاة والكشافة وليس نشيد (هتكفا) وحرس الحدود.
تأبى بيت لحم في ليلتها الميلادية إلا الاستجابة لأحلام الفقراء على وقع السلام الوطني وهو يربط بين جسدها والأغنية، يناديها من البعيد كالحنين الى أباريق القهوة وصوت النور يصرخ في البرية.