[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
بسم الله الرحمن الرحيم : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ </A> .
قول الله -جل وعلا-: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ </A> هذه الآية أشكلت على كثير من العلماء، وحصل في كلام كثير منهم اضطراب، وحصل فيه تفسير لهذه الآية بما قد يناقضها مما يأتي من الآيات بعدها، ولكن هدى الله -جل وعلا- بهذا الكتاب وبيانه مَن هداهم الله -جل وعلا- فعلموا تأويل هذه الآية على وجهها الصحيح بإذن الله جل وعلا.
فقد ذهب طائف من العلماء، وهو الذي شرحه وبيَّنه وفصَّله أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أن قول الله -جل وعلا-: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ </A> معناه: أنه لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين متروكين حتى تأتيهم البينة، يعني أن الله -جل وعلا- لن يترك أهل الكتاب الذين كفروا، ولن يترك المشركين هكذا، بل لا بد أن يرسل إليهم رسولًا يبين لهم آيات الله -جل وعلا- ويدعوهم إلى الإسلام.
وهذا يوافق قول الله -جل وعلا-: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى </A> ويماثله قول الله -جل وعلا-: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ </A> يعني: لما كنتم قومًا مسرفين نعرض عنكم، ولا نرسل إليكم ذكرا، هذا لا يكون؛ لأن الله -جل وعلا- خلق الخلق لحكمة، وهي عبادته.
ولا تعرف الخلق الطريق إليها إلا بالأنبياء والمرسلين كما قال الله -جل وعلا-: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ </A> وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ </A> وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ </A> فالله -جل وعلا- خلق الخلق لعبادته.
وإذا خلقهم لعبادته فلن يتركهم جل وعلا هملًا لا يعرفون شيئًا، بل لا بد أن يرسل إليهم الرسل، ويقيم عليهم الحجة، فالله -جل وعلا- ذكر في هذه الآية أنه لن يترك المشركين، ولا الكافرين من أهل الكتاب حتى تأتيهم البينة.
وهذه البينة بيَّنها الله -جل وعلا- قال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً </A> أي: يتلو هذا القرآن العظيم الذي هو منزل من عند الله مطهر ولهذا لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ </A> فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ </A> أي: في هذه الصحف أحكام قيمة؛ لأن قوله جل وعلا: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ </A> .
قال بعض العلماء: "الكتب" هنا جمع كتاب بمعنى حكم؛ لأن مادة "كتب" تأتي بمعنى حكم، كما قال الله جل وعلا: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي </A> وبعض العلماء يقول: إن قوله جل وعلا: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ </A> أي: أن هذا القرآن مشتمل على كتب سابقة من الكتب التي لم تنسخ، ولم تُحَرَّف.
فذكر الله -جل وعلا- من تلك الكتب أحكامًا وافق القرآن تلك الكتب عليها كما تقدم في قوله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى </A> فقوله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى </A> إلى آخره هذا مما ذكر في صحف إبراهيم وموسى.
وقوله جل وعلا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ </A> إلى آخر الآية هذا مكتوب في التوارة، وفي دين الله -جل وعلا- في هذا القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ </A> وقال الله -جل وعلا-: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى </A> ففي صحف موسى وإبراهيم مذكور أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وفي كتاب الله -جل وعلا- في آيات كثيرة قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى </A> .
فدل ذلك على أن قوله: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ </A> أي: أن هذا القرآن مشتمل على شيء من الكتب السابقة مما لم يُنْسَخ، أو يُغَيَّر، والقرآن قد وافق تلك الكتب عليها، وهذا معنى ليس ببعيد، وإن كان الأكثرون على الأول.
ثم قال جل وعلا: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ </A> أهل الكتاب لما جاءتهم البينة من عند الله تفرقوا، فاليهود منهم من آمن بموسى، ومنهم من كفر، والنصارى منهم من آمن بعيسى، ومنهم من كفر، ومنهم من قال: إنه هو الله، ومنهم من قال: إنه ابن الله، ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
ولما جاءتهم البينة، وهو نبينا -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا فمنهم من آمن به، ومنهم من أعرض عنه، سواء من اليهود أو من النصارى، أو من المشركين فتفرقوا في هذا النبي مع وضوح البينة، ومع ذلك تفرقوا.
قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- ذكر هذه الآية إعلامًا لهذه الأمة بألا تتفرق كما تفرق اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا الكتاب، وتفرق المشركون.
وفيها توبيخ لمن تفرق بعد أن جاءته آيات الله -جل وعلا- فدلت هذه الآية على التحذير من الفرقة والاختلاف، وأن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يجب أن تكون أمة واحدة كما قال الله -جل وعلا-: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ </A> وفي الآية الأخرى وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ </A> .
ولهذا نهانا الله -جل وعلا- عن ذلك: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ </A> ولهذا نهانا الله -جل وعلا- عن ذلك وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ </A> يعني: إذا حصل النزاع فشلوا، وهذا الفشل عام في أمور الدين والدنيا، وتذهب الريح، وتذهب القوة، ويتسلط الأعداء، وقال جل وعلا: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ </A> .
فإذا تفرق الناس بعد هدى الله الذي بعث به نبيه -صلى الله عليه وسلم- لهم عذاب عظيم، وكيف لا يكون ذلك وقد امتن الله -جل وعلا- على هذه الأمة بأن أَلَّفَ قلوب أهلها، بعد أن كانوا أعداء متناحرين: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا </A> .
ولهذا أخبر الله -جل وعلا- أن رحمته إنما تكون لغير المختلفين، وأما المختلفون فلا تنالهم رحمة الله، قال الله -جل وعلا-: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ </A> فمَن رحم الله لا يختلفون.
فدلت هذه الآية على أنه يجب على المسلمين أن يتفقوا ولا يفترقوا، وألا يختلفوا، وألا يفعلوا ما يوجب الفرقة، ولكن هذا الاتفاق يكون على دين الله وشرعه، وليس على الأهواء، ولا على ما لا يرضي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وإنما يكون الاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان السلف الصالح يقولون: "الاجتماع رحمة والفُرْقة والاختلاف شر ونقمة" لكنهم يريدون بهذا الاستمساك بحبل الله المتين الذي بعث به نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
قال الله -جل وعلا-: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ </A> أي: أن الله -جل وعلا- ما أمر عباده إلا ليعبدوا الله جل وعلا مخلصين له بمعنى أنهم يعبدونه عبادة يصرفونها له، خالية من شوائب الشرك والرياء، بل تكون مخلصة لله -جل وعلا- لا يشركون فيها مخلوقًا، ولا يلتمسون بها حظًا من حظوظ الدنيا.
وقد أمر الله -جل وعلا- بذلك كما قال: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ </A> إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ </A> وقال جل وعلا: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ </A> .
وقال تعالى: حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ </A> يعني: أنهم يخلصون لله ويكونون حنفاء، والحنيف هو المائل عن الشرك إلى التوحيد قصدًا، ولهذا سمى الله -جل وعلا- خليله إبراهيم حنيفًا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا </A> وقال جل وعلا لنبيه: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ </A> فالحنيف هو المائل إلى هذا الدين عن قصد.
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ </A> خص الله -جل وعلا- هاتين العبادتين؛ لأنهما الركنان الثاني والثالث بعد الشهادتين؛ ولهذا كان بعض العلماء من أهل السنة والجماعة يرى أن مَن ترك الصلاة أو الزكاة فهو كافر؛ لأن الله -جل وعلا- قرنهما كثيرًا، ورتَّب جل وعلا عدم قتال الكفار على فعلهما، وجعل الأخوة مرتبطة بفعلهما: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ </A> .
وفي الآية الأخرى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ </A> فخَصَّ الله -جل وعلا- هاتين الآيتين بالذكر مع دخولهما في الدين؛ لأنهما من أعظم أركان الدين، قال جل وعلا: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ </A> أي: وذلك دين الملة القيمة المستقيمة التي تَعَبَّدَ الله -جل وعلا- خلقَه بها.
ثم قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ </A> يعني: أن المشركين في نار جهنم، وقد بَيَّنَا ذلك فيما سبق، وأنهم خالدين فيها لا يخرجون منها أبدًا، وقد تقدم بيان ذلك.
وزاد الله -جل وعلا- في هذه الآية أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ </A> البرية بمعنى الخليقة، يعني: أن الكفار هم شر الخلق، فهم أشر من البهائم والدواب؛ لأن هذه البهائم والدواب إذا كان يوم القيامة يجري بينها القصاص، لكن ليس عليها حساب، ولا عذاب، يقتص الله -جل وعلا- لكل واحدة من الأخرى، ثم يقال لها: كوني ترابًا، فتكون ترابًا؛ لأن الله -جل وعلا- لم يخلق فيها عقولًا لتدرك شرعه وحكمه.
وأما بنو آدم فخلق الله -جل وعلا- لهم عقولًا؛ ليدركوا بها هذا الشرع، وما بعثت به الأنبياء والمرسلون، فوقع الحساب عليهم جزاء على أعمالهم وعدلًا منه جل وعلا؛ ولهذا كان بنو آدم هم الذين كلفهم الله -جل وعلا- بأن يحملوا تكاليف الشرع: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا </A> فلما حملها فإنه يحاسب عليها يوم القيامة.
وأما تلك البهائم فليس لها عقول؛ فلهذا لم تحمل هذا الشرع؛ ولهذا وصف الله -جل وعلا- هؤلاء الكفار بأنهم شر من الدواب: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ </A> وقال جل وعلا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ </A> فلهذا يكونون هم شر الخليقة.
ثم قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ </A> قد صدق لنا أن الله -جل وعلا- دائمًا في كتابه الكريم يقرن ببن الجزاءين ويبين حال الفريقين، وهنا لما ذكر الله -جل وعلا- حال الكفار والمشركين، وما أعده لهم ذكر جل وعلا بعد ذلك حال عباده المؤمنين في الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ </A> .
والبرية عند أكثر العلماء معناها الخليقة، وبعض العلماء يقول: إن البرية تحتمل أن تكون من البراء، وهو التراب، ويكون على ذلك أولئك هم خير من خلق من تراب، والمخلوق من التراب إما مؤمن وإما كافر، لكن أكثر أهل العلم على أن قوله جل وعلا: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ </A> أي: أولئك هم خير الخليقة.
ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء أن صالح البشر أفضل من الملائكة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ </A> يعني: خير الخليقة فدل على أن صالح البشر أفضل من الملائكة، وهذه المسألة قد تكلم فيها العلماء كثيرًا: فمنهم من يرى أن الملائكة أفضل، ومنهم من يرى أن صالح البشر أفضل، مع اتفاق العلماء على أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل الخلق: من البشر، والملائكة، والجن وغيرهم.
قال الله -جل وعلا-: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ </A> يعني: أن هؤلاء يكونون في جنة عدن، وجنة عدن هي جنة الإقامة؛ لأن كلمة عدن معناها مقيم، فهم في دار الإقامة، لا يخرجون عنها أبدًا.
كما قال الله -جل وعلا- عنهم إذا دخلوا الجنة: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ </A> وقال الله -جل وعلا- في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا </A> .
وقال جل وعلا: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا </A> يعني: لا يبغون عنها منقلبًا، ولا تحولا، وقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا </A> تأكيد للإقامة في جنات عدن، وأنهم لا يخرجون منها أبدًا.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ </A> أي: أن الله -جل وعلا- قد رضي عنهم، وهم قد رضوا عن الله -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- أعطاهم ما وعدهم؛ ولأن الله -جل وعلا- هداهم، ووفقهم للطاعة، ويوم القيامة يرضون ويرضيهم الله جل وعلا. وقد قدمنا أن الله -جل وعلا- لا يرضى إلا عن القوم المؤمنين، وإذا رضي عنهم ربهم -جل وعلا- فإنه جل وعلا يكرمهم وينعمهم.
ثم قال جل وعلا: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ </A> أي أن هذا الأجر لمن خشي الله -جل وعلا- ووجل قلبه من ربه، خشي الله -جل وعلا- خشية في قلبه، ظهرت آثارها على جوارحه، فعمل بطاعة الله -جل وعلا- والعبد إذا خشي ربه -جل وعلا- بلقبه ظهر آثار ذلك على جوارحه، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ </A> .