ما معنى (العنف) ؟
العنف هو: الغلظة والخشونة والقوّة غير المشروعة المقرونة بفزع الانسان، أو أيّة ممارسة تخلو من الرفق واللين، وتمثل التعدّي على الحرّيات.. وبكلمة مختصرة فهو يعني الغاء الآخرين لأسباب وطرق غير قانونية وغير منطقية، كما في مثال (قابيل) و(هابيل).
الانسان بطبعه ينفر من العنف لأنّه يخالف فطرته.. خذ مثلاً: فرض الرأي، الإكراه، الإرغام، التسلّط، القمع.. كلّها تُجابه بردّ فعل قويّ من الانسان، قد يأخذ شكل الممانعة، أو المقاومة، أو التمرّد، أو العصيان، أو مواجهة العنف بالعنف أحياناً.
إزاء العنف يمكن أن نقف أحد المواقف التالية:
1 ـ أن نواجه العنف بالعنف..
2 ـ أن نواجه العنف بالتسامح والمغفرة.
3 ـ أن نواجه الإساءة (العنف) بالإحسان (اللطف).
التجربة الانسانية أثبتت:
ـ مقابلة العنف بالعنف تعني إشعال حرب لا يمكن توقّع نتائجها ولا إحصاء خسائرها..
ـ مواجهة العنف بالتسامح يجنّب احتمال وقوع كارثة.. أو يقلِّص من الأضرار المحتملة..
ـ مكافأة الإساءة بالإحسان.. أكثر الوسائل قدرة على تقريب القلوب وتوفير الأمن والسلام..
قريش جابهت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعنف.. لكنّهَ لم يواجه عنفهم بعنف.. وحين تمكّن منهم في فتح مكّة سألهم: ما تروني صانعاً بكم؟!
قالوا: أخٌ كريم وابنُ أخ كريم!
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!
لم يجدها فرصةً لينتقم أو ليثأر من أيّام كانوا يدمون وجهه وأقدامه، ويعذّبون أصحابه وأتباعه..
أهل بيته (عليهم السلام) فعلوا مثلما فعل.. قابلوا الإساءة الكبرى بالعفو والتسامح والصفح، ممّا حدا بالمسيئين إلى اعتناق الاسلام، أو التراجع عن مواقفهم الدنيئة..
أحدهم يسبّ علياً (عليه السلام) فيقول: «قاتله الله ما أفقهه من كافر». فيثب إليه أصحابه ليقتلوه.
الإمام صاح بهم: «هوّنوا عليكم، وكفّوا.. إنّما هو سبٌّ بسبّ أو عفوٌ عن ذنب، وأنا أهل لأن أعفو»!
آخر.. يتهم الإمام الباقر (عليه السلام) بأنّه «بقرة» فلا يستثير حفيظته.. يقول له لقد سمّـاني جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباقر.. فيمعنُ المسيء باساءته فيقول له: يا ابن الطبّاخة! فيردّ عليه الإمام ببرودة أعصابه المعهودة: تلك هي حرفتها!
فيحاول المسيء أن يستفزّه: يا ابن الزنجيّة البذيئة!
ولكنّه لم يُفلح في استفزازه قطّ.. الإمام على ما عرف عنه بضبطه لنفسه وكظمه لغيظه قال: إن كانت كما تقول غفر اللهُ لها.. وإن كانت ليست كما تقول غفر الله لك..
هذا الموقف الحكيم جعل المسيء يشهد أنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته..
هل كان الباقر (عليه السلام) في موقف ضعف؟
عدم الردّ على العنف بالعنف والإساءة بالإساءة ليس جُبناً.. هو (ترفّع)..
كأنّك تقول للمعتدي.. هذا هو شأنك.. وشأنك غيري شأني.. أنا قادرٌ على الردّ عليك بالمثل.. وربّما الصاع صاعين.. لكنني أربأ بنفسي أن أكون (صغيراً) و(حقيراً) و(دنيئاً) مثلك..
بمعنى آخر.. أُتركهُ يعاقبُ نفسَهُ بنفسه.. فالشتيمةُ دائماً تعاقب نفسها لأنّها تفضحُ صاحبها أنّه ذو نفس خبيثة.. وهذا بحدّ ذاته عقاب..
في الحديث: «مَن أفحش شفا حسّاده».. فتأمّل بعمق:
علي (عليه السلام) بطل الاسلام.. قتل الكثير من المشركين والمنافقين والخوارج، لكنّك لو سألت علياً: أيّهما أحبّ إليك: أن يهتدي هؤلاء أو أن تقتلهم؟ لأجاب:
«لئن تهتدي إليّ فئةٌ فتعشو إلى ضوئي أحبُّ إليَّ من أن أقاتلها أو تبوء بآثامها»!
القتال ـ في الأعم الأغلب ـ كان دفاعياً.
حتى المعارضة لم يكن يواجهها علي (عليه السلام) بالعنف، وهو قادرٌ على ردعها بذلك، لكنّه كان يقول لمن يخالفه ولا ينزل على حكمه:
«أمّا أنا فلا أُهيجك بأذى، ولا أقطُع عنك عطاءً ما دام المسلمون منك في أمان»!
انظر إلى شرطه: (ما دام المسلمون منك في أمان) أي ما لم تتعرّض سلامة المواطنين إلى الخطر.. فكلُّ ما دون ذلك يهون!