الهجرة
------------
و ما ان عاد الأنصار الى يثرب حتى أذن الرسول للمسلمين بالهجرة فخرجوا من
مكة زرافات و وحدانا يتسللون خوفا من منع قريش لهم و ظلت الهجرة حوالى
شهرين تقريبا(من آخر ذى الحجة الى أول ربيع الأول)حتى خلت معظم ديار
المسلمين فى مكة من ساكنيها و لم يبق بمكة غير الرسول و أبى بكر و علي و آل
بيوتهم و المستضعفين من المسلمين
وكان وقع الهجرة على مشركي قريش سيئا فحاولوا منع المسلمين بشتى الطرق
الإرهابية ولكنها لم تجد فتيلا, فتآمروا بالرسول صلى الله عليه و سلم فى
دار الندوة و استقر رأيهم على الفتك به بطريقة تضمن تفرق دمه فى القبائل
فلا يكون لأهله حتى المطالبة به فانتقوا من كل قبيلة شابا قويا, و أوكلوا
إليه حصار بيت الرسول و أن يقتلوه بضربة واحدة, و لكن كان تدبير الله أقوى
من تدبيرهم, كما قال تعالى: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين فأطلع
رسوله على تدبير قريش و أوصى إليه بالهجرة إلى يثرب فنام علي فى فراش
الرسول و تغطى ببردته ليغرر بالمحاصرين, و اصطحب الرسول معه أبا بكر و خرجا
ليلا إلى جنوب مكة و اختفيا فى غار جبل ثور و مكثا فيه ثلاثة أيام و كان
عبد الله بن أبى بكر و أخته أسماء يحملان الأخبار و الطعام و الماء إليهما
جن جنون قريش عندما عرفت أنها باتت تحرس علي وأن الرسول خرج من مكة سليما
معافى, فاتجه رجالها للبحث عنه فى كل مكان و وصل بهم قصاصو الأثر حتى باب
الغار الذى يختبىء فيه الرسول و صاحبه, و لكن جند الله كانت تحرسه و تسهر
عليه و أيده الله بجنود شاهدها الناس كالحمام و العنكبوت و جندا لم
يشاهدوها و هى التى عناها الحق فى قوله تعالى وأيّده بجنود لّم تروها و بعد
أن مكثا فى الغار ثلاثة أيام ركبا صوب يثرب و كان عليهما أن يختارا طريقا
غير الطريق المعهود حتى لا تظفر بهما قريش فاتخذا من"عبد الله بن
أريقط"دليلا لهما فسلك بهما الطريق الغربى المحاذى للبحر الاحمر و هو طريق
وعر غير مسلوك لكثرة ما فيه من صعوبات و مشاق تحملها الرسول و صاحبه و
قطعوا مسافة 510 ميلا تحت الشمس الحارقة تطاردهم مكة بأسرها و قد أدركهم
بعض المطاردين فحماهم الله منهم, قطعوا المسافة فى ثمانية أيام و وصلوا الى
قباء ضاحية يثرب يوم الأثنين الثانى عشر من شهر ربيع الأول
و قبل أن ننتقل إلى الدور المدنى فى حياة الرسول يجمل بنا أن نذكر سمات
الدعوة الإسلامية فى دورها المكي
استغرقت الدعوة الإسلامية فى دورها المكى(من البعثة حتى الهجرة)اثنتى عشرة
سنة و خمسة أشهر وواحد و عشرون يوما نزل فيها على الرسول صلى الله عليه و
سلم معظم القرآن فنزل بمكة اثنتان وثمانون سورة من جملة سور القرآن
البالغة مائة و أربع و عشرة بالإضافة إلى اثنتى عشرة سورة مشتركة بين
المكى والمدنى و اشتمل التشريع المكي على أهم ما جاءت من أجله الدعوة
الإسلامية, كما يتميز بأنه تشريع كلي, أى أنه يهتم بالأمور الكلية ولا
يتعرض لأحكام جزئية و يمكن تلخيص سمات التشريع المكي فيما يأتى
اولا:الوحدانية و رفض عبادة الأوثان و أن تكون هذه العقيدة أساسا لبناء
المجتمع الجديد
ثانيا: تقرير فكرة البعث و الحساب واليوم الآخر و أن كل إنسان يحاسب بمفرده
على عمله فلا تزر وازرة وزر أخرى
ثالثا: وحدة الرسالات السماوية و أنها تستمد أصولها من منبع واحد هو الله
سبحانه وتعالى
رابعا: بيان الصفات التى تقرب العبد من ربه و التى تبعده عنه
خامسا: اذابة الفوارق بين الطبقات و الغاء العصبية القبلية فالناس جميعا
متساوون فى الحقوق و الواجبات فكلهم من ذكر و أنثى, و أن الأفضلية لا تكون
إلا بمقدار تقوى العبد لربه{إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}
سادسا: فرضت الزكاة و الصلاة فى هذا العصر
[center]كيف استقبلت المدينة رسول الله صلى الله
عليه وسلم
-------------------------------------------------------------
ترامت الأخبار بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينة فكان
الأنصار يخرجون كل يوم إذا صلوا الصبح إلى ظاهر المدينة ينتظرون رسول
الله صلى الله عليه وسلم فما يبرحون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيدخلون
بيوتهم وكان الزمن صيف وحر
و قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الناس البيوت, وكان اليهود
يرون ما يصنع الأنصار, فلما رآه رجل من اليهود صرخ بأعلى صوته:يا بني قيلة
(وهي جدة للأنصار ينسبون إليها وهي بنت كاهل بن عذرة) هذا صاحبكم قد جاء
فخرج الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه ***
بكر رضي الله عنه في مثل سنه, وأكثرهم لم يكن رأى الرسول صلى الله عليه
وسلم قبل ذلك وازدحم الناس ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك
ما يميزون بينه وبين أبي بكر, وفطن لذلك *** بكر فقام يظله بردائه فانكشف
للناس الأمر
واستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالت
الأنصار:انطلقا آمنين مطاعين فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه
بين أظهرهم فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن:
أيهم هو؟ يقول أنس رضي الله عنه فما رأينا منظرا شبيها له
وخرج الناس حين قدما المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون
الله أكبر جاء رسول الله, الله أكبر جاء محمد, الله أكبر جاء محمد, الله
أكبر جاء رسول الله وكانت البنات ينشدن في سرور و نشوة
طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة *** مرحبا يا خير داع
يقول أنس بن مالك الأنصاري وهو غلام يومئذ:شهدت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل
المدينة علينا وكان فيمن خرج لينظر إليه قوم من اليهود فهم عبد الله بن
سلام الذي قال حين رآه:فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب فكان أول ما
سمعت منه"أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس
نيام تدخلوا الجنة بسلام
نزوله بقباء-ضاحية المدينة
----------------------------
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف فنزل على
كلثوم بن هدم وقيل بل نزل على سعد بن خيثمة والأول أرجح واختلف في المدة
التي مكثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء وأكثر ما قيل اثنتين
وعشرين ليلة وذكر البخاري أنه أقام بضع عشرة ليلة والأشهر ما ذكره ابن
إسحاق أنه مكث أربعة أيام من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة
وقد أسس في هذه المدة التي اختلف فيها مسجد قباء وهو الذي نزل فيه قول الله
تعالى: لمسجد أسّس على التّقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه فيه رجال
يحبّون أن يتطهّروا والله يحبّ المطّهّرين و يقول ابن إسحاق:أنه أدرك
الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في مسجدهم فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة
وأقام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بمكة ثلاث ليال حتى أدى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها
لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء
دخول الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة
--------------------------------------------------
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفي الطريق كان الناس
يتلقونه فلا يمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم
ويقولون:أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة, ويمسكون بزمام ناقته القصواء
وقد أرخى لها زمامها فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خلوا سبيلها
فإنها مأمورة "
ووقع ذلك مرارا ولا شك أنها كانت معجزة جعلها الله تعالى لنبيه تطيبا لنفوس
أصحابه ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بحي من بني النجار إذا جوار
يضربن بالدفوف ويقلن
يا حبذا محمد من جار نحن جوارمن بني النجار
وسار الأنصار حوله حتى إذا أتى دور بني مالك بن النجار بركت الناقة في موضع
المسجد النبوي اليوم وهو يومئذ مربد(وهو الموضع الذي يجفف فيه
التمر)لغلامين يتيمين من بني النجار يقال لأحدهما سهل والأخر سهيل
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الناقة فاحتمل *** أيوب خالد بن زيد
النجاري الخزرجي رحله فوضعه في بيته ودعته الأنصار إلى النزول عليهم فقال
عليه السلام:المرء مع رحله ونزل صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى
مسجده ومساكنه
ونزل عليه السلام في السفل من البيت وكره *** أيوب وأعظم أن يكون في العلو
فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في العلو ويكون هو رضي الله
عنه وعياله في السفل فقال الرسول:"يا أبا أيوب:أن أرفق بنا وبمن يغشانا
أن نكون في سفل البيت", وكان *** أيوب الأنصاري عظيم الفرح بنزول رسول
الله صلى الله عليه وسلم في بيته كثير الاعتداد والاهتمام بضيافته
يقول *** أيوب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفل البيت وكنا فوقه
في المسكن فلقد انكسرت حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا
لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه
وسلم منه شيء فيؤذيه, وكنا نضع له العشاء ثم نبعث إليه فإذا رد علينا فضلة
تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة
وصادف إبان الهجرة أن كانت المدينة موبوءة بالحمى فلم تمض أيام حتى مرض ***
بكر وعامر بن فهيرة وبلال واستوخم الصحابة جو المهجر الذي آواهم واستيقظت
غرائز الحنين إلى الوطن المفقود فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من
الدعاء قائلا:"اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا
في صاعها ومدها وانقل حماها واجعلها بالجحفة
الرسول في المدينة و تأسيس الدولة
الإسلامية
-----------------------------------------------------
أصبحت المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها في السادس عشر من
ربيع الأول معقل الإسلام ومشعل الهداية ومنطلق الدعوة إلى الله وعندما وصل
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يسكنها المهاجرون والأنصار
واليهود فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ في وضع الأسس التي
تجعل من هذه الجماعات مجتمعا قويا متحدا على أسس إسلامية ومبادئ دينية فقام
الرسول بالخطوات الآتية تحقيقا لهذه الغاية
أولا : بناء المسجد – أي صلة الأمة بالله
ثانيا: المؤاخاة – أي صلة الأمة المسلمة بعضها بالبعض الأخر
ثالثا: المعاهدة بين المسلمين و اليهود – أي صلة الأمة بالأجانب عنها ممن
لا يدينون بدينها
أولا: بناء مسجد المدينة
كان أول ما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة
هو بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت ولتقام فيه
الصلوات التي تربط المرء برب العالمين ولم يكن هدف الرسول صلى الله عليه
وسلم إيجاد مكان للعبادة فقط فالدين الإسلامي يجعل الأرض كلها مسجدا
للمسلمين, ولكن مهمة المسجد كانت أعمق من هذا لقد أراد الرسول صلى الله
عليه وسلم أن يبني بيتا لله وبيتا لجميع المسلمين يجتمعون فيه للعبادة
والمشاورة فيما يهم أمر الإسلام والدولة الإسلامية, ويتخذون فيه قراراتهم,
ويناقشون فيه مشاكلهم, ويستقبلون فيه وفود القبائل وسفراء الملوك و
الأمراء من هنا وهناك, وبأسلوب العصر الحديث اتخذ مقرا للحكومة بالمدينة
فكان المسجد بهذا الوضع أشبه بمدرسة يتعلم فيها المسلمون, وتمتزج فيها
نفوسهم وعقلياتهم
وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم أرض المسجد من الغلامين- صاحبي المربد-
الذي أناخت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده كما ذكرنا, وأبى
الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هدية وعمل رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بناء المسجد فكان ينقل اللبن والحجارة بنفسه وافتدى به
المسلمون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة لا عيش إلا عيش الآخرة
وكان المسلمون مسرورين سعداء يضاعف حماسهم في العمل رؤيتهم النبي يجهد
كأحدهم ويكره أن يتميز عليهم فكانوا ينشدون الشعر قائلين
لذاك منا العمل المضلل لئن قعدنا والنبي يعمل
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم طول المسجد مما يلي القبلة إلى المؤخرة
مائة ذراع والجانبين مثل ذلك أو دونه وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع ثم
بنوه باللبن, وجعل قبلته إلى بيت المقدس, وصنع له ثلاثة ***اب وجعل عمده
الجذوع وسقفه بالجريد
وبنى بيوتا إلى جانب المسجد فلما فرغ من البناء انتقل الرسول صلى الله عليه
وسلم من بيت أبي أيوب إلى مساكنه بعد أن مكث في بيت أبي أيوب سبعة أشهر
كما ذكر الواقدي وكان في المسجد موضع مظلل يأوي إليه المساكين يسمى الصفة
وكان أهله يسمون أهل الصفة وكان عليه السلام يدعوهم بالليل فيفرقهم على
أصحابه لاحتياجهم وعدم ما يكفيهم عنده وتتعشى طائفة منهم معه عليه السلام
ثانيا: المؤاخاة
وكانت الخطوة التالية هي صلة الأمة بعضها بالبعض الأخر وتمثل ذلك في
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, وإحلال رابطة الإخاء ورابطة الدين محل
رابطة القبيلة والعصبية القبلية مصداقا لقوله تعالى: ( إنّما المؤمنون إخوة
)وفيها قرب بين بعض قبائل المهاجرين والبعض الأخر, كما قرب بين الأوس
والخزرج إذ كانت الحروب بينهما قبل الإسلام قوية, وليس هذا فحسب بل آخى بين
العرب والموالي فمثلا آخى بين حمزة عمه وزيد بن حارثة وبين أبي الدرداء
وسلمان الفارسي
وكانت نتيجة ذلك أن تكونت "أسرة إسلامية" واحدة فلا حمية إلا للإسلام وسقطت
فوارق النسب واللون والوطن وتحققت وحدة المدينة وضرب المسلمون المثل
الأعلى في التعاون والاتحاد, يقول ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال عليه السلام:"تآخوا في الله
أخوين أخوين ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال هذا أخي"
وكان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين حتى كان الأمر يؤول إلى
الاقتراع بل الإيثار فكان من الأنصار السماحة والإيثار ومن المهاجرين
التعفف وعزة النفس والنبل
روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار
مالا فاقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها
فإذا انقضت عدتها فتزوجها, قال عبد الرحمن ابن عوف: بارك الله لك في أهلك
ومالك أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من إقط
وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة(أي زينة) فقال النبي: "مهيم؟
"(سؤال عن حاله)قال:تزوجت, قال:"كم سقت إليها؟" قال: نواة من ذهب
يقول بن القيم: "وكان الذين آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم تسعين
رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المواساة,
ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر فلما نزل قول الله
تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) رد التوارث إلى الرحم
دون عقد الأخوة
ثالثا: المعاهدة بين المسلمين و اليهود
أما الأمر الثالث وهو صلة الأمة بالأجانب عنها الذين لا يدينون بدينها فان
الرسول صلى الله عليه وسلم قبل عن طيب خاطر وجودهم, وعقد الرسول صلى الله
عليه وسلم معاهدة مع اليهود الموجودين في المدينة أقرهم فيها على دينهم
وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم, وكان أساس هذه المعاهدة الأخوة في السلم,
والدفاع عن المدينة وقت الحرب, والتعاون التام بين الفريقين إذا نزلت شدة
بأحدهما أو كليهما
ولكن اليهود لم يحافظوا على الوفاء بعهدهم فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم
إلى حربهم وإجلائهم عن المدينة كما سنرى في الصفحات التالية
تشريع الآذان
----------------------
كان المسلمون يجتمعون للصلاة في مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين قدم المدينة أن يجعل بوقا كبوق اليهود الذي يدعون به
لصلاتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنخت ليضرب به للمسلمين الصلاة, فبينما هم
على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد رؤيا الآذان فأتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال له: يا رسول الله أنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل
عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا
الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال:قلت ندعو به إلى الصلاة, قال: أفلا أدلك
على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟قال:تقول:
الله أكبر الله أكبرلله أكبر الله أكبر–أشهد أن لا أله إلا الله-أشهد أن لا
إله إلا الله–أشهد أن محمدا رسول الله -أشهد أن محمدا رسول الله–حي على
الصلاة–حي على الصلاة–حي على الفلاح–حي على الفلاح–الله أكبر–الله أكبر–لا
إله إلا الله
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله
فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فانه أندى صوتا منك
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يجر رداءه يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد
رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد على
ذلك"
وقيل أن الوحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآذان. واختير بلال
بن رباح الحبشي للآذان فكان مؤذن صلى الله عليه وسلم
الجهاد في سبيل الدعوة
--------------------------------
عرفنا أن الإسلام قد دخل المدينة وأحزاب الكفر تطارده من كل ناحية, وأن
المسلمين قد هاجروا من مكة فارين بدينهم بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
فقد نهب مالهم وسلبت دورهم وتعرضوا لألوان الأذى وصنوف الاضطهاد وأنواع
الفتن
فالهجرة إذن كانت تضحية غالية عزيزة ضحى فيها المهاجرون بالأوطان والأموال
والمتاع في سبيل عقيدتهم ودينهم وتحملوا كل ذلك راضين صابرين محتسبين
لبناء مجتمع جديد وتأسيس دولة إسلامية في المدينة يستطيع المسلمون أن
يعيشوا فيها أحرارا يؤدون شعائر دينهم ويقومون بواجب الدعوة إلى الله
ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد وصوله إلى المدينة شرع في
وضع الأسس التي يمكن أن يقوم عليها بناء الدولة الإسلامية الجديدة كما
ذكرنا فهل كانت المدينة زهرا لا شوك فيه؟ وهل خلت من الأخطار والعقبات التي
وضعها أعداء الإسلام أمام الرسول والمسلمين للنيل منهم ثم القضاء عليهم
كما حاول أهل مكة من قبلهم؟
لا والله إن التضحيات لم تنته وإن المعاناة لم تتوقف فقد واجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم الكيد والمؤامرات في المدينة من أعداء الإسلام وتواطأ
على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وقد نقضوا عهدهم مع النبي وأخذوا
هم ومن تابعهم من ال****قين والمشركين يتربصون بالمؤمنين ويظهرون الولاء
لمشركي مكة
وها نحن نلقي ضوءا سريعا وإشارة عابرة للظروف التي واجهها الرسول صلى الله
عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة ومحاولته القيام بأمور دولته الجديدة تلك
الظروف التي لم يكن أحد من المسلمين سببا فيها والتي فرضت عليهم في
النهاية أن يحذروا عقباها وأن يحملوا السلاح دفاعا عما يدبر لهم من كيد و
تآمر وعدوان ذلك أنهم تعلموا من السنين التي مرت عليهم في مكة أن الضعف
مدرجة إلى الهوان مزلقة إلى الفتنة وأن أعداء الإسلام لا يرضون عن
استئصاله وأتباعه بديلا
أ-عداء اليهود للرسول
-------------------------
ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد مع اليهود عهدا بعد وصوله إلى
المدينة قرر فيه حرية الاعتقاد لليهود ورسم السياسة التي ينبغي أن يتبعها
اليهود مع المسلمين للتعاون والتناصر لكل من دهم يثرب
ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمل أن يلتزم اليهود بهذا العهد
وألا يظهر منهم عداء أو مكر للمسلمين باعتبارهم من أهل الكتاب وأن دعوة
النبي لم تكن بغريبة عن دعوة موسى عليه السلام وجميع الأنبياء قبله فهم
جميعا يلتقون على الإيمان بالنبوات والإيمان بالبعث والدعوة إلى مكارم
الأخلاق والعمل الصالح وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإيمان
بأنبياء بني إسرائيل, قال تعالى:{كلّ ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا
نفرّق بين أحد مّن رّسله}لكن اليهود وقفوا دائما من الإسلام موقفا معاديا
لأسباب منها
أولا: ما طبع عليه اليهود من حسد وجمود وغلظة وبعد عن هدايات السماء
ثانيا: أنهم رأوا في المسلمين ****سا خطيرا سوف يقضي على زعاماتهم الدينية
وتفوقهم الاقتصادي في المدينة لاسيما بعد أن نجح المسلمون في الميدان
التجاري نجاحا جلبه حسن المعاملة والتمسك بالأخلاق الإسلامية في البيع
والشراء مما لم يعد يسمح لأخلاق اليهود من الغش والاحتكار والتدليس أن تحقق
غايتها فتأخر اليهود حيث تقدم المسلمون مما زاد ضراما في قلوب اليهود
ثالثا: ما تعرض به القرآن لليهود حين كشف عن عقائدهم الباطلة وأخلاقهم
المنحطة وفضح تاريخهم الآثم في قتل الأنبياء وظلمهم وتطاولهم وعصيانهم
وتحريفهم للتوراة وحرصهم على الحياة وغير ذلك مما ذخر به القرآن الكريم
عنهم وزاد حقدهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغ غيظهم مداه حين فوجئوا
بإسلام بعض أحبارهم وعلمائهم كعبد الله بن سلام وكان ذا مكانة فيهم
فبدأت حرب جدل بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود أشد لددا و أكثر خبثا
من حرب الجدل التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك في مكة كان
اليهود فيها يتعنتون ويحاولون أن يلبسوا الحق بالباطل كذلك حاول اليهود
الوقيعة بين الأوس والخزرجإلى آخر هذه الأمور التي واجهها المسلمون والتي
كان لابد لهم حفاظا على أنفسهم ودينهم أن يعدوا العدة لمواجهتها باستمرار
ب-ال****قون في المدينة
-----------------------------
وواجه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في المدينة إلى جانب عداء
اليهود موقفا جديدا لم يكن للمسلمين عهد به في مكة وهو النفاق ففي مكة كان
الإسلام مغلوبا على أمره وكان المشركون أقوياء مستبدين يسيطرون على كل شيء
ويحاربون المسلمين ويؤذونهم وجها لوجه فلم يكن هناك مجال للنفاق
والمراوغة أما في المدينة فقد أصبح للمسلمين دولة ودخل كثير من أهلها في
الإسلام وأصبح تيار الإسلام فيها كاسحا غالبا فلم يكن من السهل المجاهرة
بالعداء للمسلمين وإبراز وجه الخصومة سافرا
ومن هنا وجد ال****قون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وأعلنوا الولاء
والمساندة للمسلمين وأضمروا العداء والكيد لهم ومشوا مع الركب وهم يخفون
نواياهم الملتوية وقلوبهم المريضة وحقدهم الأسود
وكان على رأس هؤلاء ال****قين عبد الله بن أبي بن سلول هذا الرجل الذي لم
يفتح قلبه لنور الإيمان ولم يسمح لنفسه أن يكون صادقا مع الله ومع نبيه ولم
يتجاوب مع دعوة الرسول المتكررة بنبذ النفاق والتمسك بالإخلاص والصدق
وإنما ظل أسيرا لشهوات زائلة وزعامات فانية وأحقاد دفينة ملكت عليه قلبه
ونفسه
يقول ابن هشام: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وسيد أهلها عبد
الله بن أبي بن سلول العوفيلم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل
غيره من أحد من الفريقين حتى جاء الإسلام وكان قومه قد نظموا له الخرز
ليتوجوه ثم يملكوه عليهم فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم
على ذلك فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد استلبه ملكا فلما رأى قومه قد ***ا إلا الإسلام دخل فيه
كارها مصرا على نفاق وضغن
وقد تزعم هذا الرجل جبهة ال****قين الذين ظلوا يبثون إشاعاتهم وأراجيفهم
بين المسلمين وكانوا خطرا وأي خطر على هذا المجتمع الجديد الناشئ مما جعل
الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم على حذر دائم لأنهم أشد خطرا على
الإسلام والمسلمين من الأعداء المجاهدين
ج-عداء المشركين الثابت
-------------------------------
بالإضافة إلى ما أحاط بالمسلمين في المدينة من عداء اليهود وال****قين في
الداخل كان هناك عداء عبدة الأوثان الذين تزعمتهم قريش في أنحاء شبه
الجزيرة العربية
وأمام هذا العداء السافر وإزاء كل هذا الحقد للإسلام والمسلمين ومع تعدد
هذه الجبهات التي تتآزر للإجهاز على الإسلام والمسلمين كان لابد للمسلمين
أن يستعدوا ويجهزوا أنفسهم لنضال طويل وكفاح دام وأن يتأهبوا لكل طارئ من
أجل ذلك شرع الجهاد والإذن بالقتال للمسلمين لاثنتي عشرة ليلة مضت من صفر
من السنة الثانية للهجرة للدفاع عن الحق وحماية الدعوة فقط ولم يفرض عليهم
فنزل قول الله تعالى:{أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم
لقدير * الّذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله }
وهي أول ما أنزل في أمر القتال وبعد أن جاء الإذن بالقتال نبه النبي صلى
الله عليه وسلم إلى أن قتاله إنما هو للدفاع فقط وأنه لمن قاتلهم دون من لم
يقاتلهم. فقال تعالى:{وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا
إنّ الله لا يحبّ المعتدين}
وبذلك لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرض إلا لكفار قريش دون سائر
العرب فلما اتحد مشركو العرب في عدائهم للإسلام وجمعهم الحقد على الرسول
صلى الله عليه وسلم والبغض لدينه أمر الله بقتال المشركين كافة بقوله تعالى
في سورة التوبة:{وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة}
ولما نقض يهود المدينة العهد الذي أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم
وانضموا إلى مشركي قريش لقتاله نزل قوله تعالى:{وإمّا تخافنّ من قوم خيانة
فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين}
وإن الناظر لآيات القتال بصفة عامة في القرآن الكريم يرى أن القتال في
الإسلام لم يفرض إلا لسببين اثنين: الدفاع عن النفس, وتأمين الدعوة
واستقرار الدولة
وهكذا يكون الجهاد الذي شرعه الإسلام وخاض المسلمون معاركه أشرف أنواع
الجهاد وأقدسها لأنه جهاد الدفاع عن النفس والحق ولأنه جهاد الظالمين
الطغاة فهو ليس متاعا ولم يشرع للترفيه حتى يعاب على المسلمين وإنما هو
تكليف ونضال ومعاناة وتضحية تحملها المسلمون محافظة على حق الله وحق الحياة
وقد أرغموا على ذلك إرغاما
ومن هنا فان ما يردده أعداء الإسلام قديما وحديثا أن الإسلام انتشر بحد
السيف دعوى باطلة لا تقوم على بحث منصف ونظرة متأنية عادلة بل إن الحقيقة
الواضحة هي أن الإسلام انتصر على السيف
إن الاستدلال العلمي والاستقراء التاريخي للحروب التي اشتبك فيها الإسلام
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت أنها كانت فريضة لحماية الحق
ورد المظالم ومنع الفتنة وقمع الطغاة وكسرة الجبابرة وأن الغزوات التي يبدو
ظاهرها الهجوم لم يكن الهجوم فيها إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد
التأكد من نكث العهد ونية الإصرار على قتال المسلمين وهو ما يسمى في لغة
العصر الدفاع الواقي
وفيما سنذكره من المعارك التي وقعت بين المسلمين وغيرهم ما يدحض كل فرية
ويزيل كل شبهه إن شاء الله تعالى
السرايا و الغزوات
-------------------------
لقد تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن محبا للقتال ولا راغبا فيه
وإنما اضطر إليه بعد أن فقد كل الوسائل للتفاهم مع أعدائه من اليهود
وال****قين وعبدة الأصنام للدفاع عن النفس وعن العقيدة وتأمين حدود المدينة
وإشعار القبائل المتربصة والمحيطة بها بقوة المسلمين ومقدرتهم على الدفاع
عن عقيدتهم ووطنهم الجديد وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم ذلك الضعف الذي
مكن قريشا في مكة من مصادرة عقائدهم وحرياتهم واغتصاب دورهم وأموالهم
ولذلك لما استقر أمر المسلمين أخذوا يرسلون سرايا مسلحة تجوس خلال الصحراء
المجاورة ويرصدون طرق القوافل الذاهبة والقادمة بين مكة والشام, وأخذ
النبي صلى الله عليه وسلم يترصد قوافل قريش كنوع من الحرب الاقتصادية إذ
أن عماد الحياة في قريش هو قوافلها التجارية فإذا ما أصيبت قريش في
تجارتها فإنها ستعمل للقوة الجديدة ألف حساب ثم إن ذلك نوع من التعويض
للمسلمين الذين استولت قريش على أملاكهم وأموالهم في مكة
وهكذا بدأت فترة المعارك بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه بعضها سرايا
وبعضها غزوات والسرية هي التي لم يقودها النبي صلى الله عليه وسلم أما
الغزوة فهي التي يشارك فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقد يطلق على السرية
غزوة–و لكن ذلك قليل–فيقال غزوة مؤتة وغزوة ذات السلاسل.. وسنذكر بإيجاز
أشهر الغزوات وأهم السرايا
سرية حمزة بن عبد المطلب
بعث الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان من السنة
الأولى للهجرة ومعه ثلاثين رجلا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد
لتعترض عيرا لقريش آتية من الشام فيها *** جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل
فسارت حتى وصلت ساحل البحر من ناحية العيص–ناحية من نواحي المدينة–فصادفت
العير هناك ولم تقاتل لأن مجدي بن عمرو الجهني حجز بين الفريقين وكان حليفا
لهما
سرية عبيد بن الحارث
وكانت في شوال من نفس السنة الأولى بقيادة عبيدة بن الحارث في ستين أو
ثمانين من المهاجرين فالتقى بأبي سفيان في مائتي رجل من قريش, وترامى
الفريقان بالسهام فرمى سعد بن أبي وقاص يومئذ بسهم فكان أول سهم رمى به في
الإسلام ثم انصرف القوم عن القوم
سرية سعد بن أبى وقاص
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سعد بن أبى وقاص فى ذى القعدة من
السنة الأولى و عقد له لواء أبيض و كانوا عشرين رجلا على الراجح يعترضون
عيرا لقريش و عهد الرسول صلى الله عليه و سلم الى سعد ألا يجاوزوا"الخرار"و
هو واد بالقرب من الجحفة فخرجوا حتى وصلوا المكان فوجدوا العير قد مرت
غزوة ودان
رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن السرايا السابقة لم تحقق أغراضها
فخرج بنفسه فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة لاعتراض عير
لقريش, و وصل الى ودان(وهى قرية بين مكة والمدينة)فسالمته بنو ضمره و
تحالفوا على أن لا يغزو الرسول صلى الله عليه و سلم بنى ضمره و لا يغزوه و
لا يعينوا عليه عدوا و كتبوا كتابا بذلك و عاد الرسول الى المدينة دون
قتال لأن العير كانت قد سبقته و هى أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله
عليه و سلم
غزوة بواط
و لم يمض على رجوع رسول الله صلى الله عليه و سلم غير شهر حتى خرج يعترض
عيرا لقريش آتية من الشام يقودها أمية بن خلف الجمحى و معه مائة رجل من
قريش و ألفان و خمسمائة بعير, فسار الرسول اليها فى مائتين من المهاجرين
حتى بلغ"بواط"فوجد العير قد فاتته, فرجع الى المدينة و لم يلق كيدا-أى لم
يحدث قتال
غزوة العشيرة
و فى جمادى الأولى من السنة الثانية خرج النبى صلى الله عليه و سلم فى مائة
و خمسين أو مائتين من المهاجرين يعترض عيرا لقريش, فلما وصل العشيرة حالف
بنى مدلج و حلفائهم من بنى ضمرة و وجد العير قد مضت فرجع الى المدينة
غزوة سفوان أو بدر الأولى
و بعد رجوع الرسول صلى الله عليه و سلم من غزوة العشيرة لم يقم بالمدينة
الا ليالى قلائل لا تبلغ العشر حتى أغار كرز بن جابر القهرى على أطراف
المدينة فخرج الرسول صلى الله عليه و سلم فى طلبه حتى بلغ واديا يقال له
سفوان قريبا من بدر فلم يدركه فعاد الى المدينة و تسمى هذه الغزوة بدر
الأولى
سرية عبد الله بن جحش
و فى رجب من السنة الثانية بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن
جحش الأسدى فى عدد قليل من المهاجرين قيل ثمانية و قيل اثنا عشر و كتب له
كتابا و أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره و
لا يستكره من أصحابه أحدا ففعل حتى إذا فتح الكتاب وجد فيه:إذا نظرت فى
كتابى هذا فامض حتى تنزل نخله-بين مكة و الطائف-فترصد بها قريشا و تعلم
لنا من أخبارهم
و علم الصحابة بالأمر و بأنه لا يكره أحدا منهم فمضوا معه جميعا لم يتخلف
منهم أحدا و يفهم من توجيه الرسول أن السرية كانت للاستطلاع و لم يأمر
النبى فيها بقتال لكن حدث أن رجلين من رجال السرية هما سعد بن أبى وقاص و
عتبة بن غزوان تخلفا عن الركب لأن البعير اللذان كانا يركبانه قد ضل
فانطلقا يبحثان عنه فأسرتهما قريش
وتصادف أن مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة و ذلك فى أواخر رجب فحدث تصادم لم
يتمكن عبد الله بن جحش من تلافيه و أسفرت المعركة عن قتيل واحد و أسيرين
من المشركين عاد بهما عبد الله بن جحش مع القافلة إلى المدينة و معهم بعض
ما أخذوه منهم من أموال
و قال عبد الله لأصحابه باجتهاد منه أن لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما
غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله من الغنائم الخمس فعزل لرسول الله صلى
الله عليه و سلم خمس الغنيمة و قسم سائرها بين أصحابه فكانت أول غنيمة
غنمها المسلمون و أول خمس فى الإسلام
و لما كان القتال وقع فى شهر رجب–و هو شهر حرام فقد لامهم الرسول صلى الله
عليه و سلم حين قدموا عليه فى المدينة و قال لهم:"ما أمرتكم بقتال فى
الشهر الحرام", و أوقف التصرف فى الأموال و احتجز الأسيرين, و أسقط فى يد
عبد الله و أصحابه و عنفهم إخوانهم المسلمون فيما صنعوا و قالوا لهم:صنعتم
ما لم تؤمروا به و قاتلتم فى الشهر الحرام و لم يؤمروا بقتال
ووجد المشركون و اليهود فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم أحلوا ما حرم
الله و قالت قريش قد استحل محمد و أصحابه الشهر الحرام و سفكوا فيه الدم و
أخذوا فيه الأموال و أسروا فيه الرجال
فلما أكثر الناس فى ذلك نزل الوحى يؤيد مسلك عبد الله و صحبه, قال
تعالى:{يسئلونك عن الشّهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل
الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر
من القتل} سورة البقرة من آية 217
يقول العلامة ابن القيم الجوزية فى زاد الميعاد:"والمقصود أن الله سبحانه و
تعالى حكم بين أوليائه و أعدائه بالعدل و الأنصاف و لم يبرئ أولياؤه من
ارتكاب الإثم بالقتال فى الشهر الحرام بل أخبر أنه كبير و أن ما عليه
أعداؤه المشركون أكبر و أعظم من مجرد القتال فى الشهر الحرام فهم أحق بالذم
و العيب والعقوبة لاسيما و أولياؤه كانوا متأولين فى قتالهم ذلك أو
مقصرين نوع تقصير يغفر الله لهم فى جنب ما فعلوه من التوحيد و الطاعات و
الهجرة مع رسوله و إيثار ما عند الله, و كانت السرية درسا بليغا للمشركين
أبان لهم أن المسلمين أصبحوا خطرا على تجارتهم التى يعتمدون عليها كل
الاعتماد و أنهم يزدادون مع كل يوم صلابة و قوة
و بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فى فداء الأسيرين عثمان بن
عبد الله, والحكم بن كيسان ففداهما الرسول بصاحبيه سعد بن أبى وقاص , و
عتبة بن غزوان, فأما الحكم فقد شرح الله صدره للإسلام فأسلم و أقام
بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا, و أما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها
كافرا
تحويل
القبلة من بيت المقدس الى الكعبة
-------------------------------------------
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون يصلون إلى بيت المقدس و مضى
على ذلك ستة عشر شهرا أو سبعة عشر أو ثمانية عشر شهرا, و كان الرسول صلى
الله عليه و سلم يحب أن يصرف إلى الكعبة و قال لجبريل:"وددت أن يصرف الله
وجهى عن قبلة اليهود", فقال:إنما أنا عبد فادع ربك و اسأله, فجعل يقلب وجهه
فى السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه{قد نرى تقلّب وجهك في السّماء
فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} سورة البقرة من آية
144
و كان جعل القبلة الى بيت المقدس ثم تحويلها الى الكعبة حكم عظيمة و محنة
للمسلمين و المشركين واليهود و ال****قين
فأما المسلمون فقالوا:سمعنا و اطعنا و قالوا آمنا به كل من عند ربنا و هم
الذين هدى الله و لم يكن كبيرة عليهم
و أما المشركون فقالوا:كما رجع الى قبلتنا يوشك أن يرجع الى ديننا و ما رجع
اليها إلا انه الحق
و أما اليهود فقالوا:خالف قبلة الأنبياء قبله و لو كان نبيا لكان يصلى الى
قبلة الأنبياء
وأما ال****قون فقالوا: ما ندرى محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقا فقد
تركها و إن كانت الثانية هى الحق فقد كان على باطل, و كثرت أقاويل السفهاء
من الناس و كانت كما قال الله تعالى{وإن كانت لكبيرة إلا على الّذين هدى
الله}سورة البقرة من آية 143
وهكذا انصرف المسلمون إلى الكعبة مطيعين لله و لرسوله و صارت قبلة المسلمين
إلى يوم القيامة أينما كانوا ولوا وجوههم شطرها
فرض صوم رمضان و زكاة الفطر
----------------------------------------
و فى شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة أيضا فرض صوم رمضان و كان عليه
السلام يصوم قبل ذلك ثلاثة أيام من كل شهر و لما قدم المدينة رأى اليهود
تصوم يوم عاشوراء فسألهم فأخبروه انه اليوم الذى غرق الله فيه آل فرعون و
نجى موسى و من معه فقال:"نحن أحق بموسى منهم"فصام وأمر الناس بصومه فلما
فرض صوم شهر رمضان لم يأمرهم بصوم عاشوراء و لم ينههم
وفى صوم رمضان نزل قول الله تعالى{يا أيّها الّذين ءامنوا كتب عليكم
الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون}سورة البقرة آية 183
وقال تعالى:{ شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرءان هدى لّلنّاس وبيّنات مّن
الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}سورة البقرة من آية 185
وفى نفس السنة فى شهر رمضان فرضت زكاة الفطر وقيل أن النبى صلى الله عليه و
سلم خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم أو يومين وأمرهم بذلك, و قيل إن زكاة
الأموال فرضت فى نفس السنة و قيل بعدها و قيل سنة تسع و فى يوم العيد خرج
الرسول إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد
ولنا أن نتصور مغزى كل هذه التشريعات وأثرها فى حياة الفرد و المجتمع
الإسلامي
غزوة بدر الكبرى
------------------------
و فى رمضان سنة اثنين من الهجرة كانت غزوة بدر الكبرى, و كان من خبر هذه
الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من
الشام في عير عظيمة لقريش فيما أموالهم وتجارتهم وفيها ثلاثون أو أربعون
رجلا من قريش وكانت الحرب قائمة بين المسلمين وبين مشركي قريش كما نعرف فلو
أن أهل مكة فقدوا هذه الثروة لكانت موجعة حقا وفيها عوض لما لحق
بالمسلمين من خسائر في أثناء هجرتهم الأخيرة كما أنها فرصة للنيل من هيبة
قريش وصلفها
لذلك لما سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا وكان من أشد
الناس عداوة للإسلام ندب رسول الله صلي الله عليه وسلم الناس للخروج إليها
وأمر من كان ظهره حاضرا بالنهوض ولم يحتفل لها احتفالا بليغا لان الأمر
أمر عير وقال:هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا لعل الله ينفلكموها ( أي
يجعلها غنيمة لكم ) فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه لا يرونها
إلا غنيمة لهم ولا يظنون أن يكون كبير قتال إذا لقوهم وهذا ما عبر عنه
القرآن في قوله تعالى:{وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة تكون لكم}سورة الأنفال
من آية 7
ولم يدر بخلد واحد منهم انه مقبل علي يوم من اخطر أيام الإسلام ولو علموا
لا تخذوا أهبتهم كاملة ولما سمح لمسلم أن يبقي في المدينة
وخروج رسول الله صلي الله عليه وسلم مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ولم
يكن برفقتهم سوى فرسين وسبعين بعيرا يتعاقبون ركوبها كل أثنين كل ثلاثة
وكان حظ الرسول في هذا كحظ سائر من معه فكان هو وعلي بن أبي طالب ومرثد بن
أبي مرثد الفتوى يعتقبون بعيرا واحدا وقد روى أن أبا لبابه وعلي كانا
زميلا رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان إذا كانت عقبة النبي صلي الله
عليه وسلم قالا إركب حتي نمشي عنك فيقول ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى
من الأجر منكما
وكان الخروج من المدينة يوم الاثنين لثمان او لتسع أو لإثني عشر خلون من
رمضان ودفع الرسول صلي الله عليه وسلم اللواء إلي مصعب بن عمير وراية
المهاجرين إلي علي بن أبي طالب وراية الأنصار إلي سعد بن معاذ
وبلغ *** سفيان خروج رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلم بقصده فأرسل الي
مكة ضمضم بن عمرو الغفاري مستصرخا لقريش ليمنعوه من المسلمين وبلغ الصريخ
أهل مكة فجد جدهم نهضوا مسرعين فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه
رجلا لأن معظمهم كان له فيها نصيب
وخرجوا من ديارهم كما وصفهم الله تعالي:{بطرا ورئاء النّاس ويصدّون عن سبيل
الله}سورة الأنفال من آية 47
ولما سمع *** سفيان بخروج المسلمين غير طريقة المعتاد ولحق بساحل البحر
فنجا وسلمت العير وأرسل إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم
ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا وهموا بالرجوع فأبي *** جهل إلا
القتال وقال : والله لا نرجع حتي نرد بدرا فنقيم عليها ثلاثا تنحر الجزور
ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا
وجمعنا فلا يزالون يه***ننا أبدا بعدها فامضوا
ورغم قول أبى جهل فقد رجع بنو زهرة وبنو عدي بن كعب ولولا سلاطة لسان أبى
جهل ورمية المترددين بالجبن والضعف لانسحب عدد كبير ووقف عتبة بن ربيعة حين
وقف في معسكر المشركين يدعوهم إلى الرجوع
إلا أن صوت عتبة وغيره من عقلاء قريش ضاع بين صرخات الحرب وشهوة الانتقام
من جانب أبى جهل ومن انضم إليه
ومضت قريش في مسيرها وكانت عدتهم ما بين التسعمائة والألف معهم مائة فرس
وسبعمائة بعير ونزلوا بالعدوة القصوى من وادي بدر
[b]الرسول يواجه الموقف الجديد
-----------------------------------
وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي زفران أن قريشا خرجت في عدة
الحرب لتمنع عيرها وأن القافلة قد نجت وأن قريشا تتحدى المسلمين وهكذا تغير
الموقف بالنسبة للمسلمين ولم تعد المعركة ضد قافلة تجارية قليلة العدد
وإنما أصبحت المهمة الجديدة أمام المسلمين هي مواجهة قوات قريش في معركة
فاصلة يتفوق فيها العدو عددا وعدة
ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في موقف يحتاج فيه إلى استشارة أصحابه
وخاصة الأنصار لأن ما بينه وبينهم من عهود إنما تتعلق فقط بالدفاع عن
النبي داخل المدينة وحمايته بها ولم يحدث أن اشتركوا في أي من السرايا
السابقة
أما وقد خرج من المدينة فقد تغير الموقف ومن ثم بدأ النبي يوجه حديثه إلى
المسلمين طالبا رأيهم ومشورتهم وكان يعني بصفة خاصة الأنصار
فقام *** بكر الصديق فقال وأحسن ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ثم قام
المقداد بن عمرو فقال:يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا
نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى{فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا
قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو
سرت بنا إلى برك الغماد (موضع في أقصى اليمن أو مدينة الحبشة) لجالدنا
معك من دونه حتى نبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له
ولفت نظر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء جميعا من المهاجرين وهو إنما
يريد استجلاء موقف الأنصار فقال مرة أخرى: أشيروا علي أيها الناس
ففهمت الأنصار أنه يعنيهم فنهض سعد بن معاذ صاحب رايتهم وقال: يا رسول الله
لكأنك تريدنا؟ قال: أجل فقال سعد: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت
به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا علي السمع والطاعة فامض يا
رسول